ورغم مرحه الغالب كان الاكتئاب يزوره من حين لآخر فيلوح كالمريض. ربما لقامة أبيه التي تظله وتطارده، وربما لتفوق أخيه وأخته وضآلته بالقياس إليهما. وفي لحظة من لحظات الاكتئاب أقدم على الانتحار؛ دأب على ذكر الانتحار في حديثه باعتباره أمل اليائسين ولم نأخذ حديثه مأخذ الجد، بل حاول أن يصحبني معه، فسألني يوما: لماذا لا تفكر جديا في الانتحار؟
فقلت هازئا: امنحني فرصة للتفكير، ولكن لماذا أنتحر؟
فقال جادا: لقد أرهقك الحب كما أرهقتني الكراهية، ألا يكفي ذلك؟
ولكنني لم آخذ قوله مأخذ الجد. وجلسنا ذات أصيل في المقهى نستعد للعب النرد وإذا به يقوم قائلا: عن إذنك دقيقة.
وغاب خارج المقهى وجلست أنتظر وإذا بصراخ ينفجر كالعواء. هرعت إلى مدخل المقهى فرأيت عبد المنعم يتمرغ عند أصل شجرة مغروسة أمام المقهى، ويعض جذعها من شدة الألم. وتجمع الناس، واتصل من اتصل بالإسعاف، وقال بعضهم: واضح أنه انتحار.
وجاءت سيارة الإسعاف فحملته وقد شملنا الفزع والذهول. وعرفت أنه شرب كمية من حمض الفنيك ولحق بي في المقهى، وأسعفوه في الوقت المناسب. واستدعوا الكاشف بك لسؤاله فأدلى بأقواله وذهب دون أن يلقي نظرة على ابنه. ورجع كما ذهب لم يعن بزيارته سوانا، وتأثرنا جميعا غاية التأثير، وأبى عزت إلا أن يفعل شيئا؛ قابل الكاشف بك، وخاطبه بالأسلوب التقليدي قائلا: «يا عمي»، وقال له: عبد المنعم في حاجة إلى عطفك حاجته إلى حزمك!
ولم ينبس الرجل بكلمة، وظل طيلة الوقت متجهم الوجه، حتى غادر عزت البيت دون أن يقدم له فنجان قهوة.
ولما حصل عبد المنعم على البكالوريا قرر أن يلتحق بالكلية الحربية، ولم يعترض الكاشف بك يأسا منه فقال: في ألف داهية.
ونجح بعد ذلك في الالتحاق بكلية الطيران الجديدة، وأظهر تفوقا فسافر في بعثة إلى إنجلترا، ولدى رجوعه فاجأنا بزواجه! لا ندري كيف انتبه فجأة إلى وجود الجنس الآخر وأنجب ابنه الوحيد. وألحق بخدمة الملك فاروق ياورا فصار من المقربين، وعلق حسين الجمحي على ذلك بقوله: من الكرشة ولحمة الرأس إلى سراي عابدين، يا لها من وثبة خرافية!
ومنعته تقاليد وظيفته الجديدة من مجالستنا في المقهى. ربما تسلل إلينا في بعض الليالي إطفاء للشوق ثم يذهب في حذر. أخلاقه لم تتغير ولكن تقاليد حياته لا تعرف الرحمة. ولاحظت أنه أصبح ملكيا ونسي الوفد تماما وانتحلت له الأعذار. وذاع عن الحاشية ما ذاع ولكن لم تحم حوله شبهة أبدا. ولما قامت ثورة يوليو حاول أن يهرب الملك ولكنه فشل، وجرى معه تحقيق، واكتفي بإحالته إلى المعاش دون محاكمة، مما قطع بنقاء سلوكه. غير أن أقران ابنه في المدرسة عيروه بأبيه حين التحقيق معه وبعد إحالته على المعاش، وأبوا أن يعترفوا ببراءته. وناضل الولد ما استطاع عن سمعة أبيه حتى أصيب بانهيار عصبي، وتكالبت عليه المضاعفات حتى تقرر إدخاله مستشفى الأمراض العقلية وما زال مقيما به حتى الساعة.
अज्ञात पृष्ठ