وأكد لنا أن الهانم توفيت عقب ميلاد عمرو، وقبله بسنوات عديدة أنجبت موسى بك الذي يعمل اليوم في السلك السياسي. وتناسينا آل القربي بلا اكتراث حتى شدوا انتباهنا في الثلاثينيات بواقعة استفزازية خلقت لهم في القلوب كراهية ثابتة؛ فقد دعا البك إسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء في الثلاثينيات إلى مأدبة عشاء في سراياه. كان الباشا في ذلك الوقت دكتاتور مصر ومعذبها وأبغض خلق الله إلى قلبها. ومنذ عصر ذلك اليوم انتشر المخبرون في الشارع والحي كله، وصادروا أي تجمهر لأبناء الحي حتى اضطررت لمشاهدة ما يجري من نافذة بيتنا. وجاءت قوة من الشرطة واتخذت مواقعها في الشارع بكامل أسلحتها. ومضى المدعوون يحضرون في سياراتهم ويدخلون السراي تباعا. وأخيرا جاءت سيارة رئيس الوزراء، ووقف المدعوون وعلى رأسهم إحسان بك القربي لاستقبال الرجل، ولمحته وهو يغادر السيارة إلى السراي. وامتدت السهرة حتى نهاية الثلث الأول من الليل، ثم غادر الجمع السراي في مظاهرة من السيارات بين صفين من الجنود المسلحين. وانتشر الخبر في الحي كله كالنار المندلعة، وجرى اسم القربي على الألسنة مصحوبا باللعنات.
وتراجع البك إلى جحر عزلته وغموضه حتى شد انتباهنا مرة أخرى في تاريخ لاحق لم أعد قادرا على تحديده. ما ندري ذات نهار إلا ونفوسة كبيرة الخدم تغادر السراي ملتفة في ملاءتها اللف وهي تسب وتلعن قلة الحياء، ماذا حدث يا ترى؟ ومن يكون قليل الحياء؟
وعلق أحدنا قائلا: المرأة ليست شابة ولكن بها رمق ولا شك!
ورجعت المرأة بعد حين بصحبة شرطي فدخلا السراي معا، وبلغت بنا الأشواق منتهاها، واستخفنا السرور، وإذا بركب يخرج مكون من المرأة والشرطي وإحسان بك القربي، فيتحرك نحو قسم الوايلي. - يا ألطاف الله! .. البك نفسه؟! - لم لا؟ - وما دخل الشرطة؟ - طمعت المرأة في قرشين!
ولم نعرف مزيدا من الحقيقة حتى تكلم عم فرج. والله وحده هو المطلع؛ فلم أدر حتى اليوم أين يقف الخيال، وأين تبدأ الحقيقة. قال عم فرج إن البك فاجأ المرأة برغبات شاذة فغضبت لكرامتها وأبت إلا أن تشكوه في القسم. وقال الرجل: تحولت المسألة إلى قضية، وربنا يستر!
أشعلت القضية اهتمامنا، وأثارت خيالنا، وحركت مكامن الجنس في نفوسنا. وزاد عم فرج فقال إن العلاقة ساءت قديما بين البك والمرحومة زوجه لميوله الشاذة. ورأينا الرجل يرجع إلى أسلوب حياته اليومي؛ يذهب ويجيء دون مبالاة وكأن شيئا لم يكن. ماذا حدث؟ هل ينتظر محاكمة؟ .. هل عجزت المرأة عن إثبات التهمة؟ .. هل تم اتفاق من نوع ما؟ .. هل تدخلت جهات عليا لصالح البك؟ .. أفلتت الحقيقة منا تماما، وعادت الحياة إلى روتينها المألوف، وحلت خادم جديدة محل القديمة. وأتم عمرو تعليمه معنا على وجه التقريب في تاريخ واحد، وألحق كأخيه بالسلك السياسي. وبعد قيام الحرب العظمى بقليل غادر البك الحي إلى مكان آخر، فلم أسمع عنه أو عن ابنيه أي خبر، ولبثت السراي مغلقة حتى بيعت قبيل الخمسينيات، وشيدت مكانها أربع عمارات.
آل الجمحي
بيتهم يقع مباشرة لصق آل إسماعيل، وهو بيت عامر بالسكان .. عبد الرحيم بك رب الأسرة، وحسين ابنه وصديقنا، وزوجة وبنات لم يرهن أحد ولم يعرف عددهن أحد من شدة غلظ السياج المضروب حولهن. وعبد الرحيم بك الجمحي من عرب الفيوم وأعيانها، ولسبب ما عهد بأرضه إلى إخوته وهاجر إلى القاهرة، فشيد بيته في شارع الرضوان واستقر. لم ير وجه من حريمه في نافذة أو باب، ولا وجد حاجة لعرض بناته على الأسر؛ إذ كن مخطوبات منذ المهد لأبناء عمومتهن، ولم يسمح لزوجه بزيارة أسرة من الأسر إلا بعد التأكد من بعدها عن «الفرنجة»، فكان من حظي أن أرى زوجته وأنا في صباي الأول، وأتملى لونها الأبيض وقسماتها الجذابة ولهجتها العربية الريفية الممتعة، أما في المجيء والذهاب فكانت تتسربل بالسواد كأنها جوال فحم. وكان للرجل هيبة وعنجهية وصرامة وقوة عمل لها كل إنسان ألف حساب وحساب. كان قوي الجسم كمصارع محترف، غزير الشارب، غليظ القسمات، وبه حول شديد، منفر الصورة، يقبض في سيره على عصا غليظة أطول منه، ويضرب الأرض بقدم ثقيلة وهو يندفع بعباءته وعمامته. وذاع - ولا أدري كيف - أن الرجل قاتل له أكثر من ضحية في بلده. وخطر لنا ذات يوم أن نسأل حسين عن صحة ما يقال، فقال بأبهة: قتل أبي أربعين رجلا!
فرأيت فيه رمز الموت وشبحه وخفته بقدر ما كرهته، وآمنت بأن العدل لن يتحقق على الأرض حتى يقتل هذا الرجل.
وعلى أثر انصرافه من زيارة لأبي قلت لأبي: يقولون إنه قاتل.
अज्ञात पृष्ठ