إن في «القدم» شيئا يبهر، ولا بد لنا من وقفة قصيرة هنا قبل المضي في الحديث، أقول: إن بقاء الشيء المعين على مر الزمان الطويل، يكسبه عظمة ووقارا، حتى لقد أصبح مجرد القدرة على الصمود في وجه أحداث الزمن، قيمة في ذاته، فقد يخرج لنا علماء الآثار كسرة من إناء فخاري قديم، فنفسح لها مكانا بين معروضات المتاحف، ومن ذا الذي يقع على كراسة قديمة كانت كراسته يوم أن كان طفلا في أعوام الدراسة الأولى، فيمزقها غير عابئ؟ وليس الأمر في هذا مقصورا على الحنين إلى ماض ذهبت أيامه، بل إنه ليجاوز ذلك إلى ما هو أهم من الحنين، ألا وهو معنى «الدوام» الذي يذكرنا بالخلود، ويخرجنا من محدودية اللحظة الزمنية القصيرة العابرة، إلى اللامتناهي في انطلاقه، وشيء من هذا المعنى قد جعل قابلية الشيء لطول البقاء، إحدى صفات الفن العظيم والأدب الرفيع، إن الفنان الذي شيد معبد الكرنك، والفنان الذي نحت تماثيله من الجرانيت، والرسام الذي صور لوحاته بألوان لا تبهت على مر الزمن، وشاعر معلقة من معلقات الشعر العربي في الجاهلية، وكل فنان غير أولئك وهؤلاء، ممن بقي أثره الفني على الزمن، يستحق الخلود لخلود أثره؛ لأن مجرد القدرة على البقاء كاف وحده ليكفل البقاء لمن أبدع الأثر الذي صمد في وجه الأيام وتقلباتها.
نعم، فإن «للقدم» في ذاته هيبة ورهبة، كما أن «للحداثة» في ذاتها جذبا للنظر وتنشيطا للروح، ولقد تعرض أبو حيان التوحيدي لهذه الجوانب من القديم ومن الجديد في أول الجزء الأول من كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، فكان مما قاله في الموازنة بين موقف الإنسان من الجديد، وموقفه من القديم: إن الجديد يثير في النفس التعجب والإعجاب، وأما القديم فله في النفس إجلال وتعظيم، ومن أطرف ما ذكره في سياق حديثه، تعليقه على معنى كلمة «عتيق» التي تؤخذ وكأنها مرادفة لكلمة «قديم»، فبين لنا أبو حيان أنها تضيف إلى معنى القدم جانبا، وهو الإشارة إلى «الكرم، والحسن، والعظمة»، هذه كلمات التوحيدي، وهذه المعاني موجودة في قول العرب «البيت العتيق»، وبالطبع يتبادر إلى أذهاننا سؤال هنا، هو: هل يوجد هذا الجانب من المعنى في عتق العبد من عبوديته؟ فيقول عمن أعتقه سيده إنه «العتيق»، ويجيب أبو حيان التوحيدي بأن هذه الكلمة تدخل في المعنى نفسه، حتى في استعمالها هذا؛ لأن من كان عبدا قد أكرمه العتق بأن ارتفع به عن العبودية.
معذرة فقد استطرد بي القلم، لكنني أردت أن أقول: إنه ربما كان لمن جذبه الماضي فوقف عنده، عذره، لأن للقدم هيبته ورهبته وجلاله وعظمته، إلا أنه إذا كانت لهذه المشاعر الشريفة فتنتها، فلا ينبغي لتلك الفتنة أن تذهب بأصحابها إلى أبعد من النشوة والحنين، بحيث لا يضحون في سبيلها واجب السير إلى أمام ... ... وهنا جاءت لحظة صمت بيني وبين صاحبي، الذي جلس يستمع إلى حديثي بأذن مصغية إصغاء توترت به جلسته، وكان صاحبي هو الذي خرج بنا من لحظة الصمت، فقال: إنني عرفتك منذ زمن بعيد، ولهذا استطعت إدراك ما ترمي إليه منذ بدأت حديثك هذا عن الزمن وفعله، وأخذت تشرح لي كيف يكون فعل الزمن في الأشياء وفي الأحياء جميعا، هادما جاء ذلك الفعل أم جاء بانيا، ثم بينت الرابطة بين فعل الزمن وفكرة الثبات والتغير، فلقد أدركت أنك تشير إلى من يتملك الوهم ظنونهم، فيحسبون أن في مستطاعهم أن يجمدوا الزمن فلا يسير ولا يترك في الحياة بصمة إصبع، فيصبح وكأنه لم يكن، أو كأنه لحظة واحدة تحجرت على حال واحدة، فلا فرق عندئذ بين أن تقول عن تلك اللحظة إنها الماضي - أو إنها الحاضر - أو إنها المستقبل، إذ استقلت هي وحدها بالزمن كله، وإن أعجب ما تعجب له في هذا الوهم، أن أصحابه يحيون حياتهم اليومية كما يحياها سائر عباد الله، لا يختلفون عن سواهم إلا فيما توهموه في رءوسهم، دون أن يلحظوا ولو للحظة واحدة، أن ذلك الذي يتوهمونه ليس هو الذي يحيونه، لا صحوا في ساعات النهار، ولا حلما في نعاس الليل، فهم إذ يتحدثون عن ضرورة البقاء مع السلف في حياة واحدة، مسقطين من الحساب فعل الزمن، تراهم في شئون حياتهم اليومية، يحيون على غير ما يتمنون له أن يكون، ونحن بهذا القول لا ننحي بلائمة على أحد، لأننا نعلم كم يحتاج الأمر إلى إرادة جبارة، إذا أراد صاحب دعوة أن يعيش ما يدعو إليه، إذا كان الذي يدعو إليه مضادا للعواصف العاتية، فليس في أفراد البشر عشرات مثل غاندي، حين خاصم بريطانيا في جبروتها، ثم عاش خصومته تلك في حياته العملية، فارتدى ثوبا من غزله ونسجه، واغتذى بلبن عنزته، فلم يعد بحاجة إلى شيء من مصانع مانشستر وليفربول، وليس في أفراد البشر عشرات مثل تولستوي، يدعو إلى تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وبدأ بنفسه فتنازل عن معظم ما يملك، وإنه لمن أغنياء الروسيا في عهده، فقليلون جدا هم الدعاة الذين ينعمون بإرادة قوية تعينهم على أن يحيوا على النموذج الذي يدعون الناس إلى احتذائه ... لا، إننا لا ننحي باللائمة على أحد، حين نقرر أمرا واقعا، هو أن الداعين إلى النمط السلفي في حياتنا، تضطرهم ظروف العصر بقوة دفعها، إلى أن يمارسوا شئون الحياة الجارية كما يمارسها سائر عباد الله، فهم - والحمد لله - لا يفوتهم - ما استطاعوا - أن ينعموا بثمرات الحضارة الجديدة، فيسكنون البيوت المشيدة على هندسة العمارة الحديثة، ويذهبون بمرضاهم إلى طب جديد بأجهزته ووسائله، أينما وجدوه، ويرسلون أبناءهم إلى مراكز العلم الجديد حيثما كان، وهم لا يقصرون في استخدام سبل العيش الحديثة، بسياراتها، وطياراتها، وثلاجاتها، وهواتفها، وأنوارها ... واختصارا هم يحيون في ظلال الحضارة الجديدة، ما امتدت أمامهم تلك الظلال، وهكذا اتسعت المفارقة بين الصورة الكلامية التي يرسمها السلفيون بما يدعون الناس إليه، وبين ما اضطرتهم قوة التيار الحضاري الجديد إلى ممارسته في حياتهم العملية، وإلى هنا وليس ثمة من ضرر حقيقي يحيق بنا، لولا أن الدعوة حين وقعت على آذان الشباب، بالقوة التي وقعت بها، اهتزت لها نفوسهم، وغمضت الرؤية أمام أبصارهم، ولم يعودوا يفرقون تفرقة واضحة بين خطأ وصواب في دنيا السلوك العملي.
ومضى صاحبي في الحديث على هذا النحو، كأنما أراد أن يتكلم عني بلسانه، فيقول ما كنت لأقوله لو أمسكت بزمام الحديث، إلا أنه أخذ يعلو بصوته وبشدة انفعاله معا، خصوصا عندما قال في ختام حديثه: إنهم يريدون - يا أخي - أن يوهموا شبابنا بأن تيار الزمن بين حاضرنا وماضينا قد تجمد وسقط من الحساب.
قلت: هون على نفسك، فليس الفارق بيننا حين ننادي بوجوب الدمج بين حاضر وماض في صيغة حياتية واحدة، وبين الدعاة إلى سلفية، حين يجدون أنفسهم مرغمين على أن تكون تلك الدعوة في واد، والحياة العملية في واد آخر، أقول: إن الفارق بيننا ليس كما نظن من البعد البعيد، ففي كلتا الحالتين ينتهي الأمر بنا إلى حياة فيها درجة من الدمج المطلوب، يتفاوت مقدارها بتفاوت الأفراد، يقرها بعضنا وينكرها بعضنا الآخر إنكارا يوقعه في الازدواجية التي أشرنا إليها بين قول وفعل.
إن المدار الصحيح، الذي يجب أن تتجه إليه الدعوة بالنسبة إلى الماضي والحاضر، وكيف تكون العلاقة بينهما، هي أن ندعو إلى أن يكون لقاء الطرفين في كيان الفرد الواحد، وبالتالي يكون في كيان المجتمع كله، فالماضي الذي نريد له أن يحيا، إنما هو يحيا في كائن حي يفكر ويشعر ويسلك، فيجيء فكره وشعوره وسلوكه محصلة واحدة من روافد تربوية، جاء بعضها من المصادر الموروثة، وجاء بعضها الآخر من مصادر الحاضر، وبمقدار ما يتحقق لنا التوازن بين الجانبين في حياة موحدة يكون التوفيق إلى جادة الطريق.
وسكتنا لحظة، ثم قلت لصاحبي: أتذكر يا صديقي ما قلته لك هذا الصباح عما أحاط بي من عوامل الضيق؟ فالزهور وجدتها ذابلة على حداثة عهدها، ومفتاح الباب أبى أن يدور في قفله، والوثيقة القديمة بحثت عنها فوجدتها وقد اصفر وجهها وتمزقت أركانها، والسيارة من طول ما تعطلت رفضت أن تسير، ولكن فلتعلم يا صديقي أن الزهور الذابلة ستخلي مكانها لزهور ناضرة، وأن مفتاح الباب سيزول عنه الصدأ، ويدور في قفله لينفتح الباب، والوثيقة سأعطيها لمن ينسخها بأحرف ناصعة على ورق أبيض، وسيارتي سيصلح عطبها فترغم على أن تسير، فإذا صح منا العظم، انفتح لنا الطريق.
حتى يغيروا ما بأنفسهم
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
صدق الله العظيم.
अज्ञात पृष्ठ