لقد كنا ذات يوم قريب، نصب اهتمامنا على التفكير في تشخيص العلة التي أصابت المصري في المرحلة الأخيرة، من تاريخه، بحيث اختفت عنه صفات كان متميزا بها، ومنها تعاونه التلقائي مع أهل أسرته وقريته أولا، ومع أبناء وطنه بصفة عامة، وكان لكاتب هذه السطور رأي أبداه وهو أن العلة الطارئة على المصري في علاقته مع وطنه ومواطنيه، أساسها ضعف شديد في إحساسه بالآخرين، فتراه يتصرف وكأن لسان حاله يقول: وهل هناك آخرون؟ على غرار ما قاله «بلفور» حين رسم خريطة وهمية لفلسطين، التي كانت عندئذ (1917) تحت الانتداب البريطاني، وكان بلفور وزيرا في الحكومة البريطانية، وأراد أن يعلن وعده المشهور لليهود بوطن على أرض فلسطين، فرسم تلك الخريطة التي أشرنا إليها ليبين عليها كيف يكون التقسيم، فسأل من عرض عليه خريطته تلك: وأين يذهب سكان هذه المنطقة التي حددتها وطنا لليهود؟ فأجابه: وهل هناك سكان؟! سؤال استنكاري يثير الدهشة والغضب ...
لم يعد المواطن المصري - لظروف طارئة - يحس بوجود «الآخرين»؛ ولذلك فهو لا يحسب حسابهم، إذا ما خطط لنفسه طريق حياته، حتى يصطدم اصطداما فعليا بهؤلاء الآخرين، لأن كل واحد منهم - بدوره - قد خطط لنفسه طريقا للحياة، لم يوضع في ميزانها أن هنالك على أرض مصر أناسا آخرين، ونتج عن هذا الموقف الشاذ أن هبط التعاطف الحقيقي بين المواطنين، بعد أن كان ذلك التعاطف أقوى سمة تميز المصري في علاقته بوطنه.
ويلفت النظر أن ذلك الموقف مزدوج الاتجاه، فبينما الفرد من ناحيته يدير ظهره نحو المجتمع ليتصرف وكأنه لا مجتمع، ترى ذلك المجتمع هو الآخر قد شاعت فيه روح سلبية نحو أبنائه، فهو لا يأبه لأي فرد من هؤلاء الأبناء، يغض النظر عنه إذا احتاج إلى مؤازرته وكأن ذلك الفرد المهمل ليس واحدا من أبنائه، أو هو يهاجمه ويقلل من قيمته علنا، وكأن قيمة المجتمع ليست هي حاصل جمع القيمة في أفراده، ومع ذلك كله، فبين مصر وأبنائها من الجذب ما قد يدهش له الغرباء، فلئن كان «الآخرون» الآن هم لفرد منهم جحيمه، بما يحاولونه لهدمه وخفض قدره، فهم هم الجنة ونعيمها ...
فعل الزمن
دق الهاتف، فلما استجبت سمعت زميلا أعرفه، وأعرف أنه يهاتفني آنا بعيدا بعد آن بعيد.
قال: لم أسمع صوتك منذ زمن طويل، فكيف حالك؟
قلت: حالي في هذا الصباح عجب من عجب.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: يا أخي كأنما الدنيا تجمدت حولي، وترفض أن تدور دورانها المألوف.
قال ضاحكا: اشرح.
अज्ञात पृष्ठ