ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم «العظيم» اسم من أسماء الله - جل جلاله - وهو اسم يحمل صفة المسمى به، وكان اسم «العظيم» في أول الأمر - كما يقول الإمام الغزالي في شرحه للأسماء الحسنى - إنما أطلق على الأجسام، ليدل على امتداد الجسم، في الطول والعرض والعمق (وليلحظ القارئ أن كلمة «عظيم» متصلة بالعظم في هياكل الأجسام)؛ ولذلك كان «العظيم» في مدركات البصر، هو ما لا يدرك البصر أطرافه، ومن هنا نقول عن المحيط إنه عظيم، وكذلك عن الصحراء وعن السماء بنجومها، وغير ذلك من امتدادات المكان، ثم انتقل معنى «العظيم» من وصف الأجسام التي لا يدرك البصر أطرافها، ليصف مدركات العقول والبصائر إذا تحقق فيها العمق والاتساع، ومنها ما تستطيع العقول الجبارة إدراكها، ومنها ما يستعصي إدراكه الكامل على الإنسان؛ وعلى هذا الأساس يكون العظيم من العباد، هو ما تعذر على عامة الناس إدراك أبعادهم وأعماقهم إلا بالدرس، وواضح أن عظمة الإنسان تقاس إلى من دونه من البشر، وأما عظمة الله سبحانه فهي لا متناهية ومطلقة.
قالت لي نفسي: ماذا أردت بهذا التحليل لمعنى «العظيم»؟! هل أردت أن تعلل انشغالنا بصغائر الأمور، بغياب «العظيم»؟ فأجبتها: إن ذلك جزء مما أردته، ولو اقتصر الأمر على غياب العظيم، لما كان الخطب فادحا؛ لأن حياة الناس منذ كان في الحياة ناس، لم تشهد عظماءها في كل عصر من عصورها، وفي كل شعب من شعوبها، بل كانت العظمة بمعناها الصحيح، كالشهب تسطع في السماء حينا بعد حين، ويظل وهج الشهاب هاديا للناس فترة طويلة بعد غيابه، قبل أن يسطع في سمائهم شهاب آخر، لكن فداحة الخطب في حياتنا الآن، هو في هذا الخمول الفكري الذي نحياه، يخيم علينا بوخمه فنتثاءب فيأخذنا نعاس، ثم ما هو أفدح، إذ يختلط علينا الأمر فنظنه عظيما من تشيطن فمشى على حبل مشدود مشية البهلوان، أو نعده عظيما من تكاثرت ملايينه في بلد يعد حصيلته بالقروش، فيأخذنا الذهول، ونهتف: ألا إنه لعظيم ... صنوف كثيرة من «الشطارات» يظهر بها أصحابها، وكل بضاعتهم سفاسف وتفاهات، فندرجهم في قائمة العظماء، فأين هذه السذاجة البلهاء، من المقياس الصحيح، الذي يضن بلقب «العظيم» على رجل مثل نابليون، قائلا: إنه مهر فيما لا يدفع بحضارة الإنسان إلى الأمام، قد محا ممالك وأنشأ أخرى، وخلع ملوكا وتوج ملوكا، ثم مرت الأعوام وعاد كل شيء كما كان، فكأنك يا زيد ما حاربت ولا غزوت، العظمة في العباد إنما تكون للأنبياء والعلماء والمبدعين لروائع الفن والأدب، وللمصلحين الذين تتحول بهم شعوبهم حالا بعد حال ...
إن لشكسبير حكمة مشهورة، يقسم بها العظمة بين ثلاثة رجال، إذ يقول ما ترجمته: «بعض العظماء يولد عظيما، وبعض يبني عظمته بيديه، وبعض ثالث تدفع إليهم العظمة دفعا» - ولست أدري من ذا قصد إليه في القسم الأول، فإذا كان قد أراد ملوكا يولدون ملوكا لأن آباءهم ملوك، فقد أخطأ لأن التربع على عرش الملك ليس - في ذاته - دليلا على عظمة، وإنما عظمة الإنسان فيما يقيمه لتتقدم به حياة الناس، والصواب فيمن يولد عظيما، هو الموهوب بفطرته في دنيا العلم والفن وإصلاح ما فسد أو ضعف من حياة الناس.
قالت لي نفسي وقلت لها: وهكذا ظللت آخذ منها وأعطيها، وقد بدأ حوارنا - كما رأيت - بتذكر صغير كبير، كبرت سنه، وعلا موقعه، ولم تزل حياته نسيجا من صغائر، ثم سار بنا الحوار مستهدفا - بنفحة من أبي الطيب المتنبي - أن نلهب العزائم حتى يولد العظماء ...
صانع الحروف
لقد دار الفلك بصاحبنا دورته، وجاءه اليوم الذي ينساه لأنه يخشاه، إنه في حياته يوم لا ككل يوم، إنه ينساه ليذكره، ثم يذكره لينساه، فهو من يومه ذاك كمن يحاوره ويداوره، لا يريد له الظهور فيظهر، إنه دون سائر الأيام يوم ذو لون وطعم ورائحة، ففي مثله بدأت القصة فصولها، والله أعلم أهي قصة في صفحاتها مأساة أم هي مسلاة وملهاة؟ إنه يوم يشبه أن يكون صورة مصغرة ليوم الحساب، ففيه يصر صاحبنا على أن يقيم لنفسه الموازين، لا عن عام واحد مضى، بل عن شريط أعوامه منذ كانت له أعوام: ماذا صنعت يا أخانا لتغير من حياة الناس؟ فلما أن طرح السؤال على نفسه هذا العام، كما كان يطرحه في موعده من كل عام، جاءه الجواب - ربما لأول مرة - بأنه لم يصنع سوى كلمات.
فلقد كانت حياته كلها كلاما في كلام، كالذي قاله هاملت عن نفسه، حين رآه من رآه وهو يقرأ كتابا، فسأله: ماذا أنت قارئ يا هاملت؟ فأجابه ساخرا: إنها كلمات، كلمات، كلمات.
كانت الحياة قد تأزمت بأبي الطيب المتنبي وهو في مصر، أيام كافور الإخشيدي؛ لأنه لم ينل من كافور ما جاء ليناله منه، فلما حل يوم العيد، نظم قصيدته التي هجا فيها كافور، ووجه إلى مصر عتابا لائما.
अज्ञात पृष्ठ