والمثل الواحد الذي أسوقه، صادفني خلال هذا الصيف (1985) فيما علمته من أخبار دولة أوروبية قصدت إليها للعلاج، والنافذة التي يطل منها مريض على المجتمع الذي يقيم بين ظهرانيه، هي وسائل الإعلام فيه، ووسيلتي الوحيدة الآن: الأذن، أسمع بها ما يذيعه الراديو، فسمعت أن لجنة كانت قد شكلت بصورة رسمية، قدمت تقريرها ، فإذا بإحدى المواد المعروضة التي يراد لها أن تسن وتصاغ قانونا من قوانين الدولة الخاصة بحريات الأفراد في الرأي والعقيدة، أن يحرم على من يعرض شيئا عن الديانة التي يؤمن بها، أن يجرح أية عقيدة دينية أخرى، فهو مسموح له أن يشيد كيفما شاء بعقيدته دون أن يتعرض لعقيدة دينية أخرى بتجريح ... إلى هنا وقد لا يثير الأمر دهشة عندنا، برغم أننا من الناحية التطبيقية عاجزون عن تنفيذه، لكن ما يشد الانتباه بعد ذلك، هو أن أعضاء الندوة التي عرض عليها ذلك التقرير لمناقشة مواده قبل عرضها على البرلمان، وجدوا أن ثمة نقصا يجب تلافيه؛ لأننا إذا اكتفينا بالنص على ألا يتعرض أنصار ديانة معينة لديانة أخرى بتجريح، فربما فهم من ذلك أنه من الجائز أن يجرح من اختار لنفسه أن يكون بغير دين، فلا بد من إضافة ما يحمي هؤلاء في حريتهم لما اختاروه ... ذلك هو الحرص من مجتمع يريد صادقا أن يكون لأفراده حق الحرية في الرأي والعقيدة.
وهكذا تستطيع أن تدور ببصرك في جوانب حياتنا، وسترى في كل جانب أن هناك فجوة تتسع بين الوطن في مجموعه من ناحية، والمواطنين - من حيث هم أفراد - من ناحية أخرى، فما تصف به الوطن قد لا يصدق بنفس الدرجة على المواطنين الأفراد، والعكس صحيح، أي أن ما يصدق على الأفراد من صفات، قد لا تجده بالدرجة نفسها في الوطن مأخوذا بجملته، فأفراد بأعداد ضخمة، قد أصبحوا في عداد الأغنياء حتى بالمقاييس العالمية، وملايين من عمال الأرض وعمال الزراعة باتوا على قدرة شرائية لم نكن نحلم لهم بها مهما شطحت بنا الأحلام، ولكن الوطن، في جملته فقير بأي مقياس مما يستخدمه المختصون في قياس درجات التقدم والتخلف في الشعوب، انظر إلى مجموعة الأفراد الذين نبغوا في دنيا الفن والأدب وفي كثير من الدراسات المنهجية، تجدنا في حالة من الثراء بحيث استطعنا أن نجول في أنحاء العالم المتقدم جميعا، وحيثما كنا، وجدنا من أبنائنا أفرادا تفاخر بهم وبقدراتهم كل أمة من الأمم ، وهؤلاء الأبناء في معظمهم تلقوا تعليمهم في جامعات وطنهم مصر، ومع ذلك فمصر متخلفة في العلم وفي الثقافة تخلفا جعلها من بلاد يسمونها تأدبا «بالنامية» حين يريدون بها معنى التخلف.
وهنا نقف لنلقي سؤالنا، فقد زعمنا في الفقرات السابقة أن موقفنا على ما فيه من تناقض، أو ربما بسبب ما فيه من تناقض بين ما يوصف به الأفراد ولا يوصف به الوطن، ليست مشكلته من الفداحة بالدرجة التي يتوهمها اليائسون، بل هي مشكلة حلها قد يتحقق في حركة خفيفة نغير بها الاتجاه، والسؤال هو: ماذا عساها أن تكون تلك اللعبة الجديدة؟
هل سمعت قصة الأعمى والمقعد؟ تحكي أن مقعدا شلت رجلاه فلا تقويان على حمله، التقى مع أعمى سليم الرجلين، فهو قادر على المشي لكنه لا يرى الطريق، فاتفقا على أن يجلس المقعد على كتفي الأعمى، فيكون عليه أن يرشد إلى الطريق، وعلى الأعمى أن يمشي برجليه إلى حيث يريدان، ولما كان كل إنسان سليم فيه ما في الاثنين معا، فهو قادر على الوظيفتين: يرى طريق السير، فيمشي برجليه إلى الهدف، وبهاتين الوظيفتين معا تتكامل للإنسان حياته، وما التعليم والتربية معا للناشئ الذي نعلمه ونربيه، إلا هاتان الوظيفتان: فالتعليم هو تزويد الفرد بمجموعة «أفكار» نضعها في رأسه، لتكون له بمثابة الإبصار، والتربية هي تزويد من نربيه بعادات يتحرك بها إلى حيث تهديه أفكاره التي حصلها، وباسمين آخرين نقول: إن الأفكار الهادية إلى الأهداف هي العلوم، وإن العادات المحركة نحو الأهداف هي القيم، ونحن إذ نصف فردا ما، أو شعبا معينا، بأنه مزدهر مبدع ناجح، كان معنى ذلك أن في حصيلته أفكارا هي له بمثابة خطط مرسومة للسير، وأن لديه العزيمة والقدرة على أن يخرج تلك الخطط إلى عالم التنفيذ، ومن هنا نفهم قول الفيلسوف «ليبنتز» للأمير الذي كان يحكم الإقليم الذي يقيم فيه، وكانت حالة الناس في ذلك الإقليم لا تعجبهما معا، فقال ليبنتز للأمير: سلمني مقاليد التعليم والتربية، أغير لك وجه الأرض في جيل واحد من الزمان، وقد صدق ، إذ ماذا يريد قوم يعيشون حياة قوية مزدهرة، إلا «أفكارا» هادية إلى أهداف و«قيما» تدفع الناس إلى تحويل الأفكار إلى أعمال، والأفكار - كما أسلفنا - «تعليم» و«القيم» تربية.
وسر النكسة الحضارية التي نجتازها اليوم، هو أننا إذ نملأ رءوس الناس بأفكار، لا تكون هي الأفكار الحية التي يمكن تحويلها إلى بناء حضاري متعدد الطوابق والأركان، وإذ نبث فيهم ما نبثه من قيم، لا تكون هي القيم التي تدفعهم إلى السير الناجح في هذه الدنيا - واللمسة الخفيفة التي قلت عنها إنها كافية لإصلاح حالنا، هي أن نجعل الأفكار التي نملأ بها رءوس الناس «علوما»، وأن نقصر القيم على جهاز التحريك فتعتدل الكفتان ويتعاون المقعد والأعمى، إذ العلوم بغير دوافع للعمل بمقتضاها، هي بمثابة مبصر كسيح، وكذلك القيم الدافعة إذا وضعت في فراغ، هي بمثابة الرجلين السليمتين عند مكفوف البصر، فلا يعرف إلى أي اتجاه يسير.
المصدر الرئيس للمعرفة العلمية هو المدارس والجامعات، والمصدر الرئيس للقيم الموجهة للسلوك هو الدين، والحياة السوية شرطها أن يتوازن المصدران، فبالمصدر الأول نعرف حقيقة العالم الواقع، وبالمصدر الثاني نعرف الحدود الجائزة في التعامل مع ذلك الواقع الذي عرفناه، وينشأ الخطأ في حياة الناس حين يتوهمون أنهم بأحد المصدرين هم في غنى عن المصدر الآخر، فربما كان خطأ الغرب اليوم هو ارتكازه على معرفة الواقع بغير ضوابط تضع حدود التعامل مع ما عرفوه، وربما كان خطؤنا وخطأ أمثالنا هو الارتكاز على ضوابط القيم، وأما معرفتهم بحقيقة الواقع فهم حتى إذا درسوها، فإنما يدرسونها بنصف عقولهم، كأنها زائدة لا ضرورة لها، فتبقى لهم ضوابط القيم وكأنها طاحونة تعمل في فراغ، ولا عجب أن يزرعوا زرعهم، ولكن لا حصاد.
ظلال بين اليأس والرجاء
كنت في مطارح الغربة حين اكفهرت السماء بسحاب غاضب، وأظلمت الدنيا في عز الظهر وكأنها قد انتقلت إلى قلب الليل في لمحة سريعة من لمحات الزمن، فقفزت إلى ذاكرتي رواية «ظلام في الظهيرة» لآرثر كبستلر، وهي رواية قوية التصوير ناصعة البيان، كتبها كاتبها في لحظة تحوله من يسار السياسة إلى يمينها، كان شيوعيا متطرفا، وشارك في الحرب الأهلية الإسبانية في أواخر الثلاثينات على ذلك الأساس، وكان يحلم مع سائر الحالمين بأن جنة الله قد أوشكت على الظهور فوق الأرض، لكنه لم يلبث على أحلامه تلك إلا قليلا، حتى اسودت سماء السياسة في وجهه، وأظلمت الدنيا ساعة الظهر، وذاق مرارة الاعتقال ورأى ظلمة السجن، لغير ذنب يعرفه، وعن تلك الخبرة كتب روايته «ظلام في الظهيرة» التي قفزت إلى ذاكرتي، عندما اكفهرت السماء بسحاب أقتم غاضب، وكان الوقت لم يزل في ساعة الزوال من منتصف النهار.
إنني هنا على أرض ليست هي أرضي، وسماء ليست سمائي، ويفصلني عن مصر لا أدري كم ألفا من آلاف الأمتار، ولكني مع ذلك أطير على أجنحة الخيال إلى أرضها وسمائها ثم أعود، وأطير وأعود في تلاحق سريع، وتلك هي نعمة الخيال، يحطم به الإنسان حواجز المكان وحواجز الزمان، مهما بعدت المسافة وطال الزمن، ومع ذلك فأنا حريص هنا أن أضع مقعدي بحيث أواجه حائط الزجاج، الذي ينحرف قليلا عن جهة الجنوب الشرقي، وهو الاتجاه إلى مصر، وكأني بذلك أساعد الخيال على الطيران في الاتجاه الصحيح، وفي جلستي تلك يعن لي آنا بعد آن، أن أستوي إلى منضدة صغيرة لأكتب ما عسى أن يفيض به الخاطر، وإني لألصق المنضدة في الحائط الزجاجي، لعلي أظفر بمزيد من ضوء النهار، يضاف إلى مصباحين يصبان نور الكهرباء على الورق صبا قريبا مباشرا، فلما أعددت نفسي لأثبت على الورق فكرة كانت برأسي، اكفهرت السماء بسحابها الأسود الغاضب.
كانت الفكرة التي أعددت لها الجهاز الضوئي لتنزلق من مكمنها إلى سن القلم فيخطها على الورقة المنشورة أمامي، فكرة يخالطها عبوس، لم تكن مستبشرة ضاحكة إلا في قليل منها، وأما في معظمها فهي قنوط ويأس، واسودت السماء فانصرفت إليها عن الورقة والقلم، ونفذت ببصري - أعني بما بقي منه - خلال الحائط الزجاجي، لأرى وأسمع ما يشبه ثورة الجن، فخيوط البرق تلمع في رعشات عصبية مخيفة، لتعقبها زمجرة الرعد بما تحس معه كأنها تهز أطباق السماء، وانهمر المطر غزيرا قوي القطرات في وقعه على ألواح الزجاج، حتى لتخشى أن يتحطم هشيما من الشظايا تحت ضرباتها، وهنا تذكرت «لير» مشردا وحده في شيخوخته المحزونة والمجنونة، إذ هو في الخلاء المكشوف مشعث الشعر مهلهل الثياب عريان الصدر، فاتجه إلى السماء وهي ثائرة فوق رأسه ببرقها وبرعدها، وبما تصبه من جام غضبها، فخاطبها بأخلاط من اللفظ المخزون المجنون اليائس قائلا فيما قاله: زمجري يا سماء وصبي ما ملأت به أمعاءك من غضب، حتى يتعادل داخلي مع خارجي نقمة وسوادا.
अज्ञात पृष्ठ