حياتنا الجديدة تصنعها أقلامنا
آيات التنزيل بينات، بأنه لا إلزام للخلف بأن يحذوا حذو السلف في أسلوب الحياة إذا هم وجدوا ذلك السلف، على صورة من الحياة في ماضيهم لم تعد تتفق مع عصر آخر جاء بعد عصرهم، وهو إنما جاء - إذا جاء - بجديد لم يكن للآباء عهد به.
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا (سورة الأعراف).
أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (سورة البقرة).
أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (سورة المائدة).
تلك آيات، هي بعض ما جاء به الكتاب الكريم، فيمن تمسكوا بما كان عند الآباء، حتى ولو كان عصر الآباء قد انقضى، وتلاه عصر آخر، ثم جاءتهم هداية ترشدهم إلى سبيل أقوم، يسلكونها في الحياة الجديدة لذلك العصر، فهذه الآيات الكريمة، وإن تكن قد نزلت في مناسباتها، إلا أن لها نورا يضيء أمام أبصارنا طريق الرشاد، بالنسبة إلى كل دعوة تقتضيها حقائق الحياة في عصر جديد، فطالما كانت أركان الدين قائمة جاز لنا، بل وجب علينا، فيما يختص بأوضاع الحياة المتغيرة، وفي اتجاهات الفكر والذوق، أن نلائم بينها وبين ما استحدثته الظروف في زمن رحل، بعد سابق له رحل.
كان حديث كهذا، هو ما مهدت به الطريق، إلى إجابة مستفيضة، أجبت بها على سؤال هام ألقاه علي ضيف كريم، وهو فقيه وعالم، وأديب، تفضل بزيارتي لأول مرة مقتنعا بأن الأخذ والرد في حوار مباشر، خير له ألف مرة من كتابة وقراءة ثم كتابة للرد، تتباعد فيها كل خطوة عن الخطوة التي تليها ثلاثة أسابيع أو أكثر، فيجيء الرد على الفكرة المعروضة، بعد أن تكون الفكرة نفسها قد بهتت معالمها، ... هكذا قال لي الضيف الوقور في حديثه الهاتفي مستأذنا في زيارة، ليناقش معي موضوعا له عنده أهمية كبرى.
وكأنما كان ضيفي حريصا على ألا تضيع منا دقيقة واحدة فيما ليس يجدي، فلم يكد يجلس على كرسيه حتى واجهني بقوله: إنك يا أخي تكثر من ذكر الفوارق بين العصور، حضارة وثقافة، وتلح على أن يكون للعصر الجديد ما يلائمه، كما كان لكل عصر من العصور ما هو ملائم لظروفه التاريخية، وهذا كلام معقول في ظاهره، لكنه أثار في نفسي سؤالا لا أظنني قد وقعت له عندي على جواب مقنع، وهو: ما الذي يفصل عصرا مقبلا عن عصر مدبر؟ أليس تيار الزمن سيالا، تشرق فيه الشمس صباح اليوم كما أشرقت صباح الأمس؟! إنك قد ترى الظل والنور متجاورين متميزين، لكن قرب منهما النظر، تجده عسيرا أن ترسم الخط الحاد الذي يفصل هذا عن ذاك، فما بالك بفترات الزمن حين نميز فيها عصرا عن عصر؟ هل في مستطاعك - يا أخي - أن تحدد لنفسك، متى على وجه التحديد أدبرت طفولتك، ليحل محلها شبابك؟ ومتى على وجه التحديد كذلك أسدل الستار على مرحلة الشباب، ليرتفع عما بعد الشباب من مراحل الحياة؟ فإذا كان من المتعذر علينا أن نقيم الفواصل بين المراحل في أمثال هذه الحالات الواضحة وضوحا نسبيا، فكيف يمكنك إقامة الفواصل بين عصور التاريخ، لتبني على ذلك تلك النتيجة الخطيرة ، وهي أن عصرا ما قد ذهب بحضارته وثقافته، وقام بعده عصر يريد بدوره أن تكون له حضارته وثقافته؟ - فأجبته قائلا: لقد أثرت بسؤالك هذا موضوعا، لا حدود لأهميته عند من يريد لنفسه فهما دقيقا وواضحا لحركة التاريخ الفكري، ومثل هذا الفهم الواضح الدقيق ضروري؛ لأنه إذا لم يتحقق لأحد منا - أو لجماعة من الناس، سبق إلى أوهامهم أنه من الممكن والجائز أن يعيش إنسان في مرحلة فكرية لاحقة في ترتيب الزمن، على نحو ما كان الناس يعيشون في مرحلة سابقة في ذلك الترتيب، ثم تظل حياته رغم ذلك الرجوع موفورة الخصب قادرة على الإبداع.
ولهذه الأهمية التي أعلقها على دقة الفهم ووضوحه فيما يميز العصور بعضا عن بعض، ولاحقا عن سابق، أرجوك يا سيدي أن تأذن لي بشيء من بسط القول وتبسيطه بقدر المستطاع، فيقال عن عصر ما إنه قد أذن بالزوال، إذا كانت حياته قد استقرت زمنا على أفكار معينة فيها كل الحلول المطلوبة لما ينشأ له عادة من مشكلات، ولكنه يفاجأ بأحداث جديدة لم يكن قد عهدها من قبل، وبالتالي فهو لا يملك لها أسلوبا خاصا يواجهها به، فعندئذ تتأزم الصدور وتتعقد مسيرة الحياة اليومية، التي يراد لها أن تكون حياة «جارية» وكأنها ماء النهر يتدفق في سيولة سلسة لا تتطلب من الناس وقفة يفكرون فيها، وهكذا - على وجه الإجمال يا سيدي - يدبر عصر ويقبل عصر جديد، فحلقات السلسلة تتعاقب على هذه الصورة الآتية: حياة مستقرة على نمط سلوكي لا تعرقل سيره العقبات، ثم مفاجأة بأحداث كبرى غير مسبوقة بما يشبهها، فضرورة تحتم على الناس أن يجدوا لذلك الجديد ما يلائمه من ردود فعل جديدة، ونمط سلوكي غير الذي ألفوه، يتكيفون له، على أنه ليس مستحيلا على الإنسان من الناحية الجسدية والنفسية معا، أن يرفض عن عمد وإرادة، مواجهة الأحداث الجديدة بما يلائمها، مؤثرا المضي في صورة حياته المألوفة، لكن مثل هذا العناد الحضاري لا بد له من ثمن باهظ يدفعه العنيد من لحمه ودمه (بالمعنى الحرفي أحيانا لهاتين الكلمتين)؛ وذلك لأنه في حالة كهذه، يصبح أمرا مؤكدا أن يبسط صاحب الحضارة الجديدة سلطانه على من تشرنق في حضارة قديمة، والأمر العجيب هنا، هو أن من أصبح سيدا ذا سلطان، يهمه أن يظل العنيد المنهزم على عناده، ليدوم للقوي سلطانه على الضعيف ...
ولقد ضربت لي أمثلة - يا سيدي - تبين صعوبة التمييز للفواصل التي تقام بين مرحلتين، فضربت مثلا بالظل والنور يتجاوران، ثم ضربت مثلا بمراحل الحياة في الفرد الواحد، طفولة وشبابا وما بعد الشباب، وأنا متفق معك في وجود الهامش الغامض بين المرحلتين حين تكون المراحل أقساما متعاقبة لظاهرة هي بطبيعتها مستمرة استمرارية النقط في الخط، أو استمرارية الماء في النهر، لكن هذه الهوامش الغامضة بين المراحل - لا تنفي أن لكل مرحلة وسطا تستقر فيه وتتضح معالمها، وهذا بعينه هو ما يحدث في مراحل التاريخ الحضاري. - قال الشيخ في هدوء وقاره: هلا أوضحت قولك هذا بأمثلة حقيقية من تاريخنا نحن؟ وأعني تاريخ مصر من حيث هي مصر، أو تاريخها من حيث هي جزء من التاريخ العربي بصفة عامة، أو من حيث هي جزء من تاريخ الإسلام بصفة أعم وأشمل؟ لك أن تختار المجال الذي تنتزع منه المثل، فأصارحك القول، بأني - بعد كل ما عرضته علي - لا أتصور تصورا واضحا، كيف أطالب بأن أحيا على نمط عقلي وذوقي وسلوكي يختلف عن نمط السلف الأولين، ثم أظل رغم ذلك - كما أريد أن أكون مصريا عربيا مسلما - إن المسألة يا أخي إنما هي مسألة النماذج المثلى من أي حياة نختارها، لندنو منها ما استطعنا ولنربي أبناءنا على استهدافها.
अज्ञात पृष्ठ