أظن أن الفكرة التي أردت إبرازها، قد باتت الآن واضحة، وهي أن من يقرأ لفلاسفة شعب معين في فترة معينة، يعرف من خلالها كيف كانت صورة الحياة في ذلك الشعب إبان تلك الفترة، ولقد زعمت لك في أول هذا الحديث أنني أطلت القراءة في الفلسفة المعاصر، لا بحكم التخصص العلمي فحسب، بل كذلك رغبة مني في معرفة روح هذا العصر الذي نعيش فيه ...
والآن فلنستعرض معا، بنظرات سريعة خاطفة نفرا من فلاسفة هذه الفترة الراهنة من عصرنا - وأعني هذا القرن العشرين على وجه التقريب - لنرى في أي شيء كتبوا ويكتبون، وما هي صورة الحياة التي نستشفها وراء تلك الكتابة، وأبدأ بالفيلسوف الإنجليزي المعروف «برتراند رسل» فهو من أعلاهم قامة، ومن أشدهم حذرا في قبول ما كانت العصور الماضية قد أخذته مأخذ التسليم ... فيروى عنه - أو هو يروي عن نفسه - أنه بدأ في سن الحادية عشرة يدرس هندسة إقليدس بمعاونة شقيقه الأكبر، وتلك الهندسة - كما نعلم جميعا مما درسناه منها في المدرسة الثانوية - تبدأ بما يعد «مسلمات»، أي أنها بضعة تعريفات وبدهيات ومصادرات، نسلم بها بادئ ذي بدء، لنأخذ بعد ذلك في استخراج النظريات بناء عليها، لكن رسل الطفل سأل أخاه: ومن أين جاءت هذه المسلمات؟ وضاق أخوه بالسؤال؛ لأنه مما لا يصح إلقاؤه بالنسبة إلى «المسلمات» وإلا لما استحقت تلك المسلمات أن تسمى باسمها هذا ... وأصر الطفل على أن يعرف على أي أساس فرضت علينا، وهدده أخوه بأن يكف عن معاونته، وسكت الطفل على مضض، لكن سؤاله لم يبرح ذهنه، حتى إذا ما أصبح شابا يدرس الرياضة في جامعة كمبردج، شغل نفسه بسؤاله القديم، ومن تلك البداية، دخل عالم الفلسفة من باب الرياضة؛ وذلك لأن سؤاله ينقله من علم الرياضة إلى فلسفة الرياضة، ثم أخذت الخيوط تتشعب بين يديه حتى انتهى به الأمر إلى إقامة فلسفة شاملة، جاءت في نهاية المطاف واحدة من أكثر الصور العقلية توضيحا لروح هذا العصر، وحسبنا أن نعلم أنه أعظم من أسهم بنصيب في إقامة منطق جديد يتناسب مع ضرورات الحياة العلمية في صورتها الجديدة.
وننتقل إلى شامخ آخر هو: ج. أ. مور، الذي يصفونه بأنه «فيلسوف الفلاسفة»؛ وذلك لأنه جعل محور اهتمامه تحليلا لما كتبه فلاسفة آخرون، ليرى إذا كان فيما كتبوه اتساق، أم أنه ينطوي على تناقض فيرفضه ... ولقد انتهى به تحليله البارع القدير إلى نتائج، كان أهمها رفضه للفلسفة «المثالية» التي تجعل العقل النظري الخالص مصدرا للمعرفة، وذهب إلى أن ما يدركه الإنسان بحسه الذي يشترك معه فيه سائر الناس يجب أن يكون مقبولا على أنه إدراك سليم.
وهنالك جماعة من علماء الرياضة وعلماء الطبيعة، أخذتهم رغبة في أن ينظروا إلى الفلسفة من خلال علومهم، فانتهوا إلى نتائج مهمة صححت كثيرا من أخطاء الماضي، كان من أهمها التفرقة بين هاتين المجموعتين من العلوم - الرياضية والطبيعية - في معايير الصواب والخطأ، فلكل مجموعة منها معيارها الخاص بها، بعد أن كان الظن فيما مضى أن للصواب العلمي معيارا واحدا، ومن نتائجهم المهمة كذلك، أن الطريقة التي تبنى بها الجملة المزعوم لها أنها جملة علمية، كافية وحدها للتدليل على صلاحيتها للعلم من حيث الشكل، أو على عدم صلاحيتها، وذلك عن طريق التحليل المستند إلى طبيعة اللغة ذاتها، فمن الجمل اللغوية ما يصلح للمنهج العلمي، ومنها ما لا يصلح، ويطلق على تلك الجماعة اسم «جماعة فينا» ...
وهنالك فلاسفة كان مدار بناءاتهم الفلسفية فكرة «التطور»، لا بالمعنى البيولوجي الذي قدمه داروين في القرن الماضي، بل بمعنى أوسع يشمل الكون كله دفعة واحدة، إذ الكون عندهم قد أخذ على الزمن يتطور من مرحلته الأولية الأولى، ليعلو درجة بعد درجة، وله في كل درجة صفات تزداد تركيبا، وتزداد - بالتالي - ارتقاء، وكان من أشهر هؤلاء صموئيل إسكندر وألفريد نورث هوايتهد.
وهنالك، إلى جانب أولئك وهؤلاء، فلاسفة كثرت الكتابة عنهم عندنا، فعرفهم المثقفون منا، منهم الوجوديون والبراجماتيون، والماركسيون، لكن الذي يلفت النظر بحق هو أن هنالك فئة كبيرة وجهت اهتمامها إلى فلسفة اللغة، وهم جديرون بأن يعرف عنهم المثقفون العرب أكثر مما يعرفونه الآن.
وبعد هذا العرض السريع لبعض اتجاهات الفكر الفلسفي في عصرنا ... نسأل: أين نجد روح العصر من هذه الأشتات؟ كيف نستخرجها من هذا الخليط؟ والإجابة التي أقدمها عن هذا السؤال هي أننا لا نكاد نلقي نظرة على تلك التشكيلة المنوعة من الاتجاهات؛ حتى يتبدى لنا في وضوح أن الاهتمام كله قد انصب على الكون في طبيعته التي نحيا بين جنباتها، فكأنما الإنسان في عصرنا هذا، قد اتجه بفكره نحو بيته الذي يقيم فيه، يحاول معرفة ما فيه، وأما ما سبق إقامة البيت، وما سوف يلحق البيت بعد زواله، فلم يظفر من فلاسفة العصر بنظرة، لا إثباتا، ولا نفيا، ولا تعليقا، إلا القليل النادر، ومن هذه الزاوية استحق عصرنا أن يوصف به كثيرا، وهو أنه عصر «مادي»، بمعنى أنه لا يجاوز حدود واقعه الذي يعيش فيه إلى خالق ذلك الواقع بكل ما فيه ومن فيه، وهو «سبحانه» مالك يوم الدين حين تفنى الدنيا ويكون الحساب.
وها هنا نصل إلى النتيجة المهمة التي أسلفت لك منذ أول الحديث، بأننا بالغوها، وهي التي من أجلها قدمنا ما قدمناه من شروح تمهد طريق الوصول إليها، وتلك النتيجة هي أنه حيث قصر الغرب، يقع واجب المفكر الإسلامي، وهو إذا أدى واجبه هذا، كان ذلك إضافة منه إلى ثقافة العصر، وإلى حضارته، التي تبنى على تلك الثقافة، فلست أظن أن أحدا يستطيع بمثل ما يستطيع المسلم أن يزود الطائر المهيض، بجناحيه المفقودين: جناح ما قد كان «قبل هذا الوجود» وجناح ما سوف يكون «بعده»؛ لأن في العقيدة الإسلامية من التفصيلات في ذينك الجانبين، ما هو كفيل بأن يسد النقص في صورة الحياة العصرية كما هي قائمة.
إن الجزء الأكبر مما قاله فلاسفة الغرب المعاصرون عن «البيت» الدنيوي من الداخل ليس فيه - كما أرى - ما يحمل المسلم على رفضه بحكم عقيدته، وإلا فمن الذي يرفض تلك التحليلات الرياضية التي انتهت إلى المنطق في صورته الجديدة؟ من الذي يتردد أمام نظرات تصحح خطأ وقع فيه الإنسان، حين انبهمت أمامه الفواصل، بين العلوم المختلفة، فانبهمت - بالتالي - معالم المنهج العلمي في التفكير؟ لكن المسلم إذ يقبل الجزء الأكبر مما قيل عن «البيت» من داخل، يرفض رفضا قاطعا أن تكون جدران البيت هي أوله وهي آخره؛ لأنه يعتقد أنه بيت إلى زوال كان قبله أزل، وسيكون بعده أبد الخلود، وما البيت - على أهميته كلها - إلا الوسيلة التي تؤدي بالإنسان إلى أي النوعين من الخلود هو صائر، أهو خلود الثواب، أم خلود العقاب؟
على أن هذه الإضافة الإسلامية إلى صورة الحياة في عصرنا، لا يكفي فيها أن تضاف إلى حافة الصورة من خارج، بل لا بد من سريانها في العروق؛ لأنها هي بمثابة الوقفة الأخلاقية التي لا تنفصل عن الإنسان كلما رفع ذراعا في عمل، أو خطا بقدم ليمشي، لكن من أراد أن يتغلغل بمبادئه الأخلاقية تلك في جسم الحياة العصرية، لن يكون له مندوحة عن معرفتها والمشاركة فيها مشاركة إيجابية فعالة: بالعقل متمثلا في الإبداع العلمي، وبالقلب متمثلا في الإبداع الفني والأدبي ... فهل نحن فاعلون؟
अज्ञात पृष्ठ