रूम
الروم: في سياستهم، وحضارتهم، ودينهم، وثقافتهم، وصلاتهم بالعرب
शैलियों
وهكذا خسر هرقل أرمينية وما وراءها وهي أخصب البقاع بالرجال لتعبئة الجيش، وخسر مصر وهي مركز تموين العاصمة، وأضاع المدينة المقدسة وعود الصليب وهو ذخر النصارى، وكانت البلقان - كما سنرى - مسرحا كبيرا لطغيان الآفار والصقالبة، فلم يبق - والحالة هذه - من جميع أقطار الإمبراطورية قطر يمكن اللجوء إليه والاعتصام به سوى أفريقيا، فأراد هرقل أن يقلع إليها ليغزو منها مصر ويجلي الفرس عنها، وعلم الشعب في القسطنطينية بما نواه الفسيلفس فهبوا يردعونه، وألح عليه البطريرك بوجوب البقاء في القسطنطينية، ولم يكف عنه حتى أقسم بأنه لن يبرح العاصمة، وفي أثناء هذا كله - ولسنا ندري متى كان ذلك بالضبط - هاجم الفرس القسطنطينية بأسطول بحري، ولعلهم قصدوا بذلك إلى معاونة الآفار - كما سيمر بنا - على أنهم لم يصادفوا التوفيق، فإن الأسطول الرومي قضى على قوتهم البحرية وبدد شملها، فغرق في بحر مرمرا أربعة آلاف فارسي مع مراكبهم، وتنبهت الكنيسة فأمدت الفسيلفس بجميع ما لديها من الذهب والفضة، شرط أن يعاد إليها ما يقابله بعد الحرب.
وكان هرقل قد استشفع إلى العذراء في السنة 609، عندما بدأ يستعد للحملة على القسطنطينية، فعاد إليها مستشفعا في شتاء السنة 621، واعتزل للرياضة الروحية تأهبا للقيام بواجب مقدس: واجب الدفاع عن الدولة والكنيسة والدين، وفي الرابع من نيسان من السنة 622 تقدم من المائدة المقدسة متناولا القربان الطاهر، وفي الخامس من الشهر نفسه دعا إليه كلا من البطريرك سرجيوس والحاكم بونوس والشيوخ وكبار الموظفين والوجهاء والأعيان، والتفت إلى البطريرك وقال: «إني أعهد إلى الله وإلى والدته وإليك بهذه المدينة وبابني من بعدي.» وبعد الصلاة في كنيسة الحكمة الإلهية والابتهال والتوسل تسلم أيقونة السيد المخلص، ثم أقلع بجنوده إلى خليج نيقوميذية، وسار إلى غلاطية وقبدوقية لإكمال التعبئة والتموين والتنظيم، ومن هنا القول إن هرقل أول الصليبيين.
وأراد هرقل أن يقصي الفرس عن مراكزهم في قلب آسية الصغرى، فقام بحركة التفاف واسعة النطاق، واتجه بجيشه شرقا مهددا مواصلات العدو وطرق تموينه ، وحاول شهربراز أن يصرف هرقل عن خطته فغزا قيليقية، ولكن هرقل لم يعره انتباها، فاضطر القائد الفارسي أن ينقلب إلى الشرق ليحول بين هرقل وهدفه، وتواقع الخصمان في أرمينية في السنة 622 فدارت الدائرة على الفرس وسجل هرقل نصرا مبينا، وانسحب الفرس من قبدوقية والبونط، وعاد هرقل إلى القسطنطينية؛ لينظر في أمر الآفار، وفي ربيع السنة 623 استأنف الهجوم في الشرق، فقطع أرمينية واحتل دوخان ونشقفان، ثم توغل في أذربيجان واتجه نحو تبريز كنزاكة ليفاجئ أبرويز في قصره فيها، ففر أبرويز من المدينة، ودخلها الروم فأحرقوا معبدها الكبير وتعقبوا الفرس الهاربين وهم ينهبون ويدمرون، ثم رجع هرقل خوفا من حركة التفافية خشي أن يقوم بها شهربراز أو شاهين أو الاثنان معا.
8
وبانتصاراته هذه تسنى لهرقل أن يستمد من شعوب القوقاس المسيحية ما عبأ به الصفوف، وكر كرة أخرى إلى الميدان في السنتين 624 و625 فضرب شهربراز عند بحيرة وان، ثم ضربه في قليقية عند نهر ساروس، فاضطر القائد الفارسي أن يتراجع إلى الشرق، وعدل هرقل إلى البونط لتمضية فصل الشتاء، ثم نوى أن يتحرك من البونط بجيش عظيم في السنة 626 ليستأنف انتصاره على الفرس، ولكن تقدم الآفار في البلقان وحصارهم القسطنطينية اضطراه أن يؤجل قصده هذا حتى السنة 627.
وفي صيف السنة 627 قام الخزر حلفاء هرقل بحصار تفليس، وهب هو إلى محاربة أبرويز، فعبر نهر الآراس عند أتشميازن، ثم دخل منطقة أرارات فأذربيجان، وانحدر بعد ذلك إلى وادي الزاب، وفي الثاني عشر من كانون الأول نازل أبرويز عند أطلال نينوى فأوقع به هزيمة شنعاء، ثم عبر الزاب متجها شطر طيسفون عاصمة الفرس، فاحتل المقر الملوكي في دستجرد وانتزع منه ثلاثمائة لواء رومي كان الفرس قد استحوذوا عليها في انتصارات سابقة، وأطلق سراح ألوف من الأسرى، ولما كان جيش شهربراز لا يزال كاملا سالما، وكانت خطوط الدفاع عن طيسفون قوية منيعة؛ آثر هرقل التربص لعدوه في تبريز، فقطع جبال الزاغروس في إبان الشتاء وبلغ إلى تبريز سالما في الحادي عشر من آذار سنة 628.
وكان شيرويه بن أبرويز قد تمرد على والده وتسنم العرش في الثامن والعشرين من شباط من السنة 628، فكتب إلى هرقل يطلب الصلح، فصالحه الفسيلفس على شروط أهمها: العودة إلى الحدود القديمة، وإطلاق الأسرى، وإرجاع الصليب المقدس ، وقبل شيرويه هذه الشروط، فاتصل هرقل بشهربراز لتنفيذها. وكان هذا القائد لا يزال مستوليا على شطر وافر من أملاك الروم في آسية، وبعد مفاوضات طويلة اجتمع هرقل وشهربراز في أرابيسوس في آسية الصغرى في حزيران من السنة 629، وعرف هرقل كيف يحدث شهربراز بما كان يراود نفس القائد الفارسي، وكان شهربراز يطمع بعرش الفرس، فعلله هرقل بالأمل، فأسرع القائد الفارسي إلى تنفيذ المعاهدة، وأجلى جيوشه عما كان يحتله من أراضي الروم، وفي آذار السنة 630 تسلم هرقل عود الصليب في منبج في سورية الشمالية، فانتقل به إلى المدينة المقدسة وأحله محله في الثالث والعشرين من الشهر نفسه،
9
وكان هرقل قد امتنع هو وأسلافه في المنصب الإمبراطوري عن اتخاذ لقب فسيلفس برغم أن رعاياهم كانوا يطلقون هذا اللقب عليهم ردا على ما كان يتلقب به ملوك الفرس، فلما انتصر هرقل على الفرس ذلك النصر الباهر غير لقبه الرسمي من أوتوقراتور إلى فسيلفس.
10
अज्ञात पृष्ठ