وفي أحد الأيام مساء ذهب إلى مكان عمومي حيث كان جمهور عظيم من الناس ليلهو عن أفكاره المحزنة، ولم يكن يبالي بأنغام الموسيقى وأصوات المشخصين؛ لأن قلبه كان يردد دائما اسم مرغريت، كما أنه لم يكن يعبأ بالسيدات الجالسات بقربه، وبغضون ذلك قال بنفسه: نعم، ملت إلى النساء بماضي الزمان، وأما الآن فلا يسطو على قلبي سوى مرغريت. وعندما انتهى الفصل نهض عن كرسيه قاصدا الخروج فسمع صوتا يناديه، فحول رأسه إلى جهة الصوت، وإذا بسيدة هيفاء القد، مليحة الوجه، خفيفة الحركة، تتبعها فتاة لطيفة المنظر لابسة ثوبا من الحرير . - أأنت السيدة فارز؟ - نعم، أنا هي. وصافحته بوداد باسمة، ثم تقدمت ابنتها ومدت يدها لمصافحة ألبير. - أكاد لا أعرف حضرة ابنتك العزيزة! - نعم، فإنها تغيرت كثيرا عن الماضي، أما أنا فقد تقدمت بالسن ومنذ زمن طويل لم أرك، مع أني أسر بمشاهدتك سرورا لا مزيد عليه؛ لأنها تذكرني بتلك الأيام السعيدة! ولا تبرح من فكري تلك الصداقة القديمة. وهل يسوءك ذكر الماضي؟ - بالعكس، فإن ذلك يسرني. - أخبرني ماذا تصنع؟ وأين تسكن؟ وكيف تعيش؟ ولم لا تزورنا؟ - أسكن باريس، وأعيش وحدي في بيتي، وفقدت والدتي منذ 6 أشهر، وأرى المصائب والأحزان من كل جهة، ولا أريد أن أثقل على أحد. - كيف تعيش وحدك؟ - ولم لا أعيش وحدي؟ - لم لا تزورنا؟ إني أؤكد لك أن خبر انفصالك عن مرغريت قد غمنا جدا، وكنت أحبها من كل قلبي. - ذلك الحب مضى الآن. - أراها الآن تبتعد عني ولا أزورها إلا مرة واحدة في السنة، وأظن أنها تفضل قطع هذه الزيارة. - وهل رأيتها من عهد قريب؟ - لا، إني لم أرها من عدة أشهر، لكني التقيت بوالدتها في الأسبوع الماضي، فأخبرتني بأن ابنتها سافرت إلى الجنوب. - قل لي صريحا، ألا يؤلمك ذكرها؟ - لا وحقك. - مسكينة مرغريت، فإنها أحبتك كثيرا. - وا لهفتاه على أيام مضت! - نعم، لقد أحبتك جدا، وأنت جرحتها جرحا بليغا بسلوكك، وأظنها الآن سعيدة راضية بعيشتها. وفي أثناء كلامها هذا نظرت أمارات الألم على محياه فهتفت: آه، ربما تتألم من كلامي هذا! ثم مدت له يدها ثانية دلالة على ميلها إليه. - هل تأذنين لي يا سيدتي بزيارتك؟ - من كل بد، إننا نستقبل الزائرين يومي الأربعاء والسبت، وحينئذ تسمع عزف ابنتي هذه على البيانو لأنها ماهرة بفن الموسيقى. (عند ذلك توردت وجنتا ابنتها أودت وخفضت عينيها) لو لم تمت إيڤون لكانت الآن صبية؛ إذ إنها من عمر ابني جان. ثم تنهدت طويلا وقالت: أرى أن لا مجال للكلام هنا، لكن زرنا بأول فرصة تسنح لك، وحينئذ نتحدث عن جملة أشياء، وإن كنت تأبى الزيارات الرسمية في الأيام المعينة للاستقبال، فيمكنك الحضور نحو الساعة الثانية بعد الظهر أي يوم شئت، وهل بلغك خبر ترملي؟ - لا أعرف شيئا من هذا. - نعم إن يد المنية قد اختطفت زوجي منذ سنتين. - اقبلي فروض تعزيتي إذا. - أشكرك غاية الشكر، وقد أسفت جدا وبكيت بكاء مرا لحلول هذه المصيبة، وحزنت أياما طويلة، ورأيت أن ذلك لا يجدي نفعا، فالأولى أن أسلي نفسي وابنتي هذه؛ لأن الحياة في هذه الدنيا قصيرة، ونحن اللاحقون في سبيل الآخرة وهم السابقون عاجلا كان ذلك أو آجلا، لا تنس أن تزورنا عن قريب. ثم ودعته وعادت إلى مكانها. جلس ألبير بعد أن أفعم قلبه سرورا لأنه وجد إحدى صديقات مرغريت، وكان من وقت لآخر يلتفت إلى حيث هي جالسة، فرآها مرة تكلم امرأة على القرب منها، فعلم أنه موضع حديثهما.
إن مدام فارز هذه عرفت مرغريت في المدرسة إذ كانتا تلميذتين، ودامت تلك الصداقة المكينة بينهما إلى بعد زواجهما، وبعد ذلك أضحت الألفة أشد من قبل، وكانت الأسرتان تتبادلان الزيارات بتواتر وتذهبان إلى التنزه معا، وكانت على اتفاق تام في الأدب والذوق والمعشر وما شاكل هذا، وكان ارتباطهما هذا ينمو مع مرور الأيام.
وإذ طرق مسامع السيدة فارز انفساخ ألبير عن مرغريت أسرعت إليها سعيا بالصلح بينها وبين زوجها، غير أن مرغريت رفضت مقابلتها؛ لأنها كانت تعرفت ببلانش قبلا، وفضلا عن ذلك أنه تبادر إلى ذهنها أن ألبير نفسه ربما أحبها وهي لم تلاحظ هذا الأمر؛ نظرا لما هي عليه من السذاجة والثقة الكبيرة وتعلقها الشديد به.
مما لا ريب فيه أن أوهام مرغريت هذه كانت تغاير الحقيقة على خط الاستقامة؛ إذ لم يكن بينهما سوى صداقة خالية من كل عيب وغاية وألفة في منتهى السذاجة، ولم تكن السيدة فارز من اللواتي يقبلن على أنفسهن كذا أمور مشينة وأميال معيبة. نعم، إنها كانت تلبس الملابس الثمينة الأنيقة وتتزين وتتبرج لتستلفت إليها الأنظار وتعجب الناظرين، فهي كغيرها من جنس النساء، لكنها كانت تهزأ وتزدري بالعشق والعاشقين والحب وذويه، ولم تكن تبالي إلا بولديها اللذين كانا قيد اهتمامها وموضوع أفكارها وتدبير منزلها كما يقتضي؛ فإنها كانت على جانب عظيم من حسن إدارة بيتها.
وكان زوجها فارز مهندسا ذا ثقة تامة بها وبحسن أمانتها وعفافها؛ ولهذا جعلها مطلقة الحرية في شئون إدارة البيت، فهي تأمر وتنهى وتزور وتستقبل الزائرين والزائرات، وتعمل المآدب الفاخرة حسبما يروق لها، ومن طبعها الميل إلى الإكثار من الاجتماعات العالمية التي تتلوها الزيارات وصنع المآدب إلى غير ذلك مما لا غنى للسيدات عنه، وكانت تحب زوجها بإخلاص وأمانة زائدين، ولم يكن هذا الحب على سبيل العشق، وبعد وفاته تذكره غالبا وتدعوه بالصديق الأعظم، وقد صبرت على فراقه الأبدي هذا كما لو كان مسافرا.
أما سرور مدام فارز بملاقاة ألبير فحدث عنه ولا حرج، كيف لا وقد قضت بعشرته وعشرة زوجته الأيام الطويلة بدون أن يكدر صفوها شيء! وقد أخبرت ابنتها أودت بكل ما جرى له مع زوجته من غير أن تضرب صفحا عن بعض التفاصيل؛ لأنها كانت تكلم ابنتها وتعاملها كأنها امرأة طاعنة في السن، معتبرة أن الفتاة المدعوة إلى العيشة في الهيئة الاجتماعية تفتقر أن تعرف ما هو العالم، وأي شيء يجري فيه من الخير والشر والحسنات والسيئات، على أن هذه الفتاة تحب أن تكون حسنة التدبير في أساليب المعيشة، واسعة العقل، قادرة على تدبير نفسها بنفسها؛ فهذا هو اعتقاد السيدة فارز، وعلى هذا النوع والقياس ربت وثقفت ابنتها التي كانت تصغي بانتباه إلى أحاديث والدتها وتتأمل فيها طويلا. وبعد أن روت لها حكاية ألبير ومرغريت سألتها: قولي يا والدتي: ترى هل أخطأت مرغريت باقترانها ثانية أو أصابت؟ - لا شك يا ابنتي العزيزة أنها أخطأت كثيرا، وهذا كان قول المرحوم والدك.
الفصل السادس عشر
بعد مضي يومين أتى ألبير وقرع باب بيت مدام فارز نحو الساعة الثانية بعد الظهر، فسار به الخادم إلى قاعة الاستقبال، فنظر إلى ما حوله فوجد كل شيء باقيا كما كان أولا بدون أقل تغيير، وقد تبادر إلى ذهنه فورا زمان كان يأتي مع مرغريت؛ ولهذا أخذ قلبه يخفق بسرعة عظيمة حتى كاد يشعر أن فؤاده يتقطع، وترقرق الدمع في عينيه حين خطرت في باله سعادة الماضي وتعاسة الحاضر وظلام المستقبل. وبعد هنيهة حضرت مدام فارز وسلمت عليه قائلة: حقا إن زيارتك هذه سرتني سرورا لا يوصف، وإني أراك حزينا كئيبا. قص علي همومك لعل في ذلك فرجا لك. - لقد صدقت يا سيدتي، فإني حزين النفس كئيب تعس. - أنا شعرت بكل هذا لما لمحتك حيث اجتمعنا، ويلزم أن تعرف حق المعرفة بأنك أنت الملوم؛ إذ أقدمت على عمل مناف لسنة الآداب، فكانت النتيجة أن أزعجت زوجتك، وأتعبت نفسك، وخربت بيتك بيدك. - خطئت يا سيدتي وخطيئتي عظيمة، نعم كنت مجنونا والجنون فنون، وهأنذا ترينني أكفر عن خطيئتي بعيشة مملوءة من اليأس والقنوط والشقاء، بل يا لها من عيشة مرة لا تطاق! وإني حتى هذه الساعة لا أزال أحب مرغريت وأميل بكليتي إليها أكثر من الأول. صرح بهذا وهو يشعر بتعزية عظيمة في قلبه، على أنه رأى بجانبها اللطف والجودة والإصغاء التام لحديثه، فتسلى نوعا وقال: ما أطيب قلبك أيتها الصديقة! - إني لا أرى دواء لدائكما. - نعم، لا دواء لذلك.
قال هذا على غير ما في ضميره؛ إذ لم يقطع الأمل من استرجاعها. - إن الدواء الناجع الوحيد هو النسيان وترويض النفس بالتنقل والأسفار من جهة إلى أخرى. - كنت فيما مضى أميل إلى السفر أما الآن فلا. - ألم تزل تحب بلانش؟ - اتبعت ذلك حينا لكني لا أختارها زوجة لي، ولو كانت ملكة جالسة على سرير الملك. - وهل تركتها من زمان طويل؟ - منذ عشرة أشهر. - تبا لهذه الدنيا، ما أمر الحياة فيها! أما الآن فقد مضى ما مضى، ومتى اطلعت على مرهم شاف لجرحك فلا تتأخر عن المجيء إلى هنا؛ فإني أساعدك بقدر إمكاني. إني أتذكر إيڤون في مكان اصطيافنا الأخير، وسأريك رسمها في حجرتي، وكنت أحبها وأميل إلى أمها كثيرا. - إني أعهد أن من طبعها الأمانة، فلم تجافيك يا ترى؟! - أظن أنها لا تريد أن ترى أحدا من الذين عرفوها قبلا، وسبب ذلك واضح كالشمس في رابعة نهارها. وربما الدكتور روجر لا يميل إلى معاشرة الناس، ومرغريت لا تزور وتستقبل إلا في النادر، وهل وجدتها سعيدة؟ - أظن ذلك، لها ابن صغير جميل جدا، وهي تحبه محبة عظيمة. - ألم تنظرها من عهد الانفساخ؟ - صادفت مرة والدتها، لكنها كانت وحدها. - تجنب أن تراها ما استطعت؛ لأنك ربما وجدتها كئيبة، وهذا مما لا يسرك. - ولماذا تكون كئيبة، وأراني لا أخطر في بالها، ولا علاقة لها بي الآن؟! - ما هذا إلا كلام. (إن هذه اللهجة أحيت الأمل في قلب ألبير، إلا أنه كتم سره ولم يعرب عما في ضميره.) - لا نتقابل، كوني مطمئنة من هذه الجهة. - هكذا آمل. - إن لساني عاجز أيتها السيدة عن شرح عظم تأثري الذي شعرت به عند دخولي بيتك العامر، فقد ضنكت من كثرة الهموم وأشعر بأني هرمت، ولكن رأيتني ساعة زيارتك عاد إلي نشاط الشبيبة.
وفي أثناء ذلك دخلت أودت وهي تميل بقدها الأهيف وصافحته وجلست. - إني ذكرت ابنتي هذه بأنك كنت محبا لها بالماضي، وقد فطنت لعدة أشياء. - أصحيح هذا أيتها الآنسة؟ - نعم أتذكر جملة أشياء، أذكر إيڤون الصغيرة وكيف كانت لابسة ثوبا أزرق يعلوه تخريم أبيض، وذلك في عيد الميلاد. إن كلمات أودت هذه خرقت قلب ألبير الذي لم تندمل جراحه بعد، فرفع يده أمام عينه قاصدا إخفاء دموعه المتفجرة، فلحظت ذلك أم أودت فقالت: لقد آلمته يا عزيزتي! - لا لم تؤلمني، بل سرتني كثيرا لما أبانت لي لون الثوب وشكل التخريم. - تشجع أيها الصديق القديم، إننا نذكر إيڤون على مسامعك كي نسرك. - أراني سعيدا بلقائكما أيتها السيدة الفاضلة! - كان يجب أن تبحث عنا قبل اليوم، مع ذلك نسامحك على هذه الهفوة بل الذنب العظيم ، بشرط أن تتناول العشاء عندنا مساء الأربعاء القادم. - أرجوك أن تعفيني من هذا. - لا بد من مجيئك؛ فإننا نتحدث ونمرح ونسر باجتماعنا؛ إذ لا غريب بيننا البتة.
अज्ञात पृष्ठ