ومتى حصلت للشعب روح وراثية مستقرة مع الزمن تتغلب هذه الروح على روح الجماعة.
ويظهر الشعب - أحيانا - كالجماعة بمظهر المتقلب ، ولكن لنعلم أن وراء تقلبه وحماسته ومظالمه وهدمه غرائز ثابتة متأصلة تدعمها روح العرق، وقد أثبت تاريخ الثورة الفرنسية وتاريخ القرن الذي بعدها كيف تتغلب الروح الثابتة على روح التخريب في نهاية الأمر، وما أكثر المرات التي جدد فيها الشعب حالا بناء ما هدمه من الأنظمة!
ولا يسهل التأثير في روح الشعب كما يسهل في روح الجماعات، فوسائل التأثير في روح الشعب تسير معوجة بطيئة كالجرائد والمحاضرات والخطب والكتب، ويمكن ردها إلى العناصر التي وصفناها سابقا وهي: التوكيد والتكرار والنفوذ والعدوى.
وقد تنال العدوى النفسية شعبا بأسره فجأة، ولكنها لا تسري في الغالب من فريق إلى آخر إلا بالتدريج، فهكذا انتشر الإصلاح الديني في فرنسة، والشعب، وإن كان يهيج أقل من الجماعة، قد تثيره بغتة بعض الحوادث كشتمه وتهديده بالغزو، وقد شوهد ذلك غير مرة أيام الثورة الفرنسية، ولا سيما حين توعد دوك دوبر نسويك الأمة الفرنسية جاهلا نفسيتها، فهذا الدوك لم يضر بذلك لويس السادس عشر وحده، بل أضر نفسه؛ إذ أوجب سوق جيش لمقاتلته.
ويشاهد انفجار المشاعر فجأة في الأمم كلها، ولم يدرك ناپليون قوة هذه المشاعر وقتما أغار على إسبانية وروسية، وذلك أن الفلاح الروسي الذي كان خشنا سخيفا تحولت صفاته حينما شعر بغارة ناپليون، ويمكن استجلاء ذلك من العبارة الآتية التي نقتطفها من رسالة زوجة القيصر إسكندر الأول، إليزابيت، وإليكها:
لقد اشتعلت قلوب الروس حينما جاوز ناپليون حدودنا، وكان ذلك الشعور ينمو كلما أوغل ناپليون في البلاد، وصار الشيوخ الذين أضاعوا أموالهم يقولون: سنجد ما نسد به خلتنا، وكل شيء أفضل عندنا من صلح مخز، وأصبحت النساء اللاتي لهن أزواج في الجيش لا ينظرن إلى ما يحيق بهم من الأخطار ولا يخشين إلا الصلح الذي هو قضاء على روسية بالموت، وكل ذلك لم يخطر ببال القيصر، ولو أراده القيصر لم يقدر عليه.
وقد قصت الإمبراطورة إليزابيت المذكورة على والدتها الأمرين الآتيين اللذين يستدل بهما على درجة ما في نفوس الروس من المقاومة، قالت إليزابيت:
استخدم الفرنسيون في موسكو بعض الفلاحين في جيشهم ووسموهم في أيديهم كما توسم الخيل لكيلا يفروا، وقد سأل أحدهم عن هذه السمة فقيل له إنها تدل على أنه جندي فرنسي فصرخ قائلا : يا عجبا أأكون من جنود إمبراطور فرنسة! ثم أخذ فأسا وقطع بها يده ورماها على أرجل الحضور قائلا: خذوا سمتكم هذه!
وقبض الفرنسيون في موسكو على عشرين فلاحا لخطفهم بعض الفرنسين، فصفوهم وقرأوا عليهم حكم القتل باللغة الروسية، وكان الفرنسيون ينتظرون أن يطلبوا العفو، ولكنهم بدلا من ذلك طلبوا إليهم أن يمهلوهم ليصلبوا، ثم قتلوا الأول بالرصاص منتظرين أن يخاف الآخرون فيسألوا العفو ويعدوا بتحسين سلوكهم، ثم قتلوا الثاني والثالث ومن بقي من العشرين بالرصاص من غير أن يستمطر واحد منهم رحمة العدو.
وتكون الروح الشعبية مشبعة من خلق التدين، فالشعب يعتقد وجود كائنات علوية، كالآلهة والحكومات وأعاظم الرجال، قادرة على تحويل الأمور كما تريد، ويورث هذا الخلق عند الشعب ميلا شديدا إلى العبادة فيحتاج إلى معبود سواء أرجلا كان أم مذهبا، وعندما تخيفه الفوضى يتطلب مسيحا منقذا.
अज्ञात पृष्ठ