توصف روح التدين بإسنادها قدرة عظيمة إلى قوى علوية تتمثل على شكل أصنام وأنصاب وألفاظ وصيغ، وهذه الروح هي أساس المعتقدات الدينية كلها وكثير من المعتقدات السياسية.
والمنطق الديني مشبع من المشاعر وسائر العواطف، والفتن الشعبية الكبيرة تنال قوتها منه، وإذا كان الناس لا يبذلون من حياتهم في سبيل المعقولات إلا شيئا قليلا فإنهم يبذلونها كلها طوعا في سبيل خيال ديني يعبدونه.
لم تلبث مبادئ الثورة الفرنسية أن ألقت في قلوب الناس حمية دينية كالتي ألقتها المعتقدات الدينية السابقة، ولم تفعل بذلك غير تحويلها وجهة النفس الموروثة المتكاثفة مع الزمن.
إذا لا تعجب من حمية رجال العهد الشديدة، وهم يشابهون - بنفسيتهم الدينية - البروتستان في دور الإصلاح الديني، وقد كان أبطال دور الهول كروبسپير وكوتون وسان جوست وغيرهم رسلا يشبهون بوليوكت الذي ظن أنه بهدمه تماثيل الآلهة الباطلة في سبيل إيمانه يجعل العالم نصرانيا، فلما اعتقدوا أن صيغهم السحرية تكفي لدك العروش لم يترددوا في شهر الحرب على الملوك، وقد غلبوا أوربة بفضل إيمانهم القوي الذي يغلب الإيمان الضعيف.
وكان تدين زعماء الثورة الفرنسة يظهر في أدق أعمالهم، فقد قال روبسپير في إحدى خطبه، وهو يعتقد أنه محفوف بعون الله: «إن الله تعالى أمر بالحكم الجمهوري منذ البداءة»، وجعل - وهو الحبر الأعظم لدين الحكومة - مجلس العهد يضع مرسوما جاء فيه: «أن الأمة الفرنسية تؤمن بالله تعالى وبخلود النفس»، وألقى، وهو جالس على العرش يوم عيد الرب، موعظة طويلة.
واعتقد مكسمليان (روبسپير) «وجود إله قادر عظيم يحافظ على البريء المظلوم ويعاقب المجرم الظافر»، وكان الخوارج الذين كانوا يطعنون في المذهب اليعقوبي يرسلون إلى المحكمة الثورية التي كان لا يخرج منها المتهم إلا إلى المقصلة.
ولم تمت النفسية الدينية بموت روبسپير الذي هو عنوانها، فبين رجال السياسة نرى أناسا ذوي نفسية تشبه نفسيته، فهؤلاء - وإن لم يكن للمعتقدات الدينية القديمة سلطان عليهم - يخضعون لتعاليم سياسية لا يتأخرون ساعة - عند المقدرة - عن حمل الناس عليها، فطريقة الإرشاد في كل جيل، عند المتدينين الذين يضحون بأنفسهم في سبيل نشر معتقدهم، واحدة حينما يصيرون سادة.
إذن، من الطبيعي أن يكثر عدد المعجبين بروبسپير والناسجين على منواله، وهو وإن قطع رأسه بالمقصلة لم تقطع مداركه، ولا تزول المدارك التي نشأت مع الإنسان إلا بزوال آخر المعتقدين.
لم ينتبه أكثر المؤرخين إلى وجه الثورات الديني، وسوف يستمرون على عزوهم كثيرا من الحوادث إلى المنطق العقلي البعيدة منه، وقد ذكرت في فصل سابق عبارة لمسيو لاڤبس ولمسيو رانبو قالا فيها إن ثورة الإصلاح الديني «نتيجة تأملات فردية أورثها قلوب البسطاء عقل مقدام».
فلا يمكن إدراك هذه الثورات إذا ظن أن مصدرها العقل، فللمعتقدات التي أقامت العالم وأقعدته، سواء أدينية كانت أم سياسية، مصدر واحد، وكلها سار على سنة واحدة، أي أنها لم تتم بالعقل، وكثيرا ما تمت خلافا لكل عقل، نعم يظهر أن البدهية (البوذية) والنصرانية والإسلام والإصلاح الديني والسحر واليعقوبية والاشتراكية والمذهب الروحاني معتقدات متباينة، ولكنني أقول مؤكدا: إن لها دعائم عاطفية ودينية واحدة، وتتبع منطقا لا علاقة بينه وبين المنطق العقلي، وقوتها ناشئة عما للعقل من التأثير الضئيل في تكوينها وتحويلها.
अज्ञात पृष्ठ