وليس الذكاء هو الذي يتغير عند تحول الشخصيات، بل المشاعر التي يتألف الخلق منها. (2) عناصر الخلق السائد للثورات
نشاهد في أيام الثورات أن المشاعر المزدجرة عادة تسير حرة عند رفع الزواجر الاجتماعية، ولا ترفع هذه الزواجر المستندة إلى القوانين والتهذيب والتقاليد رفعا كليا، بل يبقى بعضها على الرغم من الانقلابات، وينفع هذا البعض في وقف ثوران المشاعر الخطرة.
وروح العنصر أقوى هذه الزواجر، فهي تحدد تقلبات الأمة وتسيرها على الرغم من ظواهر الأمور، فلو نظرنا إلى ما قصه التاريخ لظهر لنا مثلا أن النفسية الفرنسية تبدلت كثيرا في قرن واحد، أي انتقلت في سنين قليلة من نظام الثورة إلى النظام الإمبراطوري فإلى النظام الملكي فإلى نظام الثورة فإلى النظام الإمبراطوري، والواقع أن ظواهر الأمور وحدها هي التي تغيرت.
ولا نوضح حدود تقلب الأمة بأكثر مما فعلنا، وسنبحث الآن في العناصر العاطفية التي يساعد انتشارها أيام الثورات على تغيير شخصيات الأفراد والجماعات، وسأذكر من هذه العناصر: الحقد والخوف والحرص والحسد والزهو والحماسة، فقد لوحظ تأثير هذه العناصر في انقلابات التاريخ كلها، ولا سيما في الثورة الفرنسية الكبرى. (3) الحقد
حقد رجال الثورة الفرنسية على الناس والنظم وكل شيء هو أحد مظاهرهم العاطفية التي تبدو عند البحث في نفسيتهم، فلم يكتف هؤلاء الرجال بمقت أعدائهم بل مقتوا أيضا أعضاء حزبهم الخاص، قال أحد الكتاب حديثا: «إذا نظرنا إلى ما كانوا يصفون به بعضهم بعضا لم نر فيهم سوى الخونة والكاذبين وبائعي الضمائر والقتلة والظالمين»، وما كان مجهولا ذلك الحقد الذي غلى في صدور الجيرونديين والدانتونيين والإيبريين والروبسپيريين أيام كانوا يتطاردون، فلم يهدأ هذا الحقد إلا بقتل كل امرئ من يخالفه.
وسبب ذلك هو أن هؤلاء الهائجين لما اعتقدوا أنهم على الحق صاروا، كالمؤمنين في كل زمن، لا يطيقون مسامحة من لم يكن على مذهبهم، فصاحب الإيمان الديني أو العاطفي يميل إلى حمل الناس على إيمانه دائما، وهو لا يتأخر عن القتل في سبيله إذا استطاع ذلك.
ولو كان العقل مصدر الأحقاد التي فرقت بين رجال الثورة الفرنسية لم تدم هذه الأحقاد طويلا، ولكن صدورها عن خلق التدين والعاطفة جعل أصحابها عاجزين عن الصفح، وبما أن مصدرها واحد عند الأحزاب كلها ظهرت بشدة واحدة عند الجميع، ولقد أثبتت الوثائق الصحيحة أن الجيرونديين لم يكونوا أقل من حزب المونتانيار سفكا للدماء، فكانوا أول من صرح مع بيسيون بأنه يجب على الأحزاب المغلوبة أن تبيد، وقد بين مسيو أولار أنهم حاولوا تسويغ مذابح سپتمبر، وعليه وجب ألا تعد طريقة الهول من طرق الدفاع، بل من طرق الإبادة التي يتخذها المؤمنون الغالبون نحو أعدائهم المقهورين، فالإنسان - وإن تحمل ما يباين أفكاره - لا يطيق معتقدا مخالفا لمعتقده أبدا.
لا سلام للمغلوب في المنازعات السياسية والدينية، هذه سنة لم تتبدل منذ قطع سيلا رقاب مئتي عضو من أعضاء مجلس الشيوخ ورقاب زهاء ستة آلاف روماني حتى رجال الكومون الغالبين الذين قتلوا بالرصاص أكثر من عشرين ألف مغلوب، ولا ريب في أن هذه السنة ستجري حكمها في المستقبل كما فعلت في الماضي.
ولم يكن اختلاف المعتقدات وحده سبب الأحقاد التي ظهرت أيام الثورة الفرنسية، بل صدرت تلك الأحقاد أيضا عن المشاعر الأخرى كالحسد والحرص والعجب، ومما أوجبته هذه المشاعر مغالاة رجال الأحزاب المختلفة في الحقد، فما كان يقع بين الأشخاص من المزاحمة للقبض على زمام الأمور كان يسوق رؤساء الأحزاب إلى المقصلة واحدا بعد الآخر.
ونرى أن من عناصر الروح اللاتينية الميل إلى الانقسام وما ينشأ عنه من الأحقاد، فبه أضاع أجدادنا الغوليون استقلالهم، وقد انتبه إلى ذلك يوليوس قيصر فقال: «ليس في بلاد الغول مدينة غير منقسمة إلى حزبين كما أنه ليس فيها كورة أو قرية أو دار خالية من روح التحزب، وقلما تمضي سنة من غير أن تهاجم مدينة جاراتها بالسلاح».
अज्ञात पृष्ठ