ربما كان نشوء العمال الحديث الناشئ عن الحركة النقابية أكبر المشاكل الديموقراطية الحاضرة وأعظمها شأنا، وقد انتشر المذهب النقابي القائم على تجمع المنافع المتماثلة فأصبح عالميا، ولبعض النقابات ميزانيات تعدل ميزانيات الحكومات الصغيرة، ونذكر - على سبيل المثال - أن دخل نقابات ألمانية بلغ واحدا وثمانين مليونا، ويدل شيوع الحركة النقابية في جميع البلدان على أنها ليست بدعة خيالية كالاشتراكية، بل هي نتيجة لمقتضيات الاقتصاد، ولا قرابة بين المذهب النقابي والاشتراكية من حيث الغاية ووسائل العمل، وقد أوضحت هذا في كتاب روح السياسة، فأكتفي الآن بتلخيص الفرق بينهما في بضعة أسطر :
ترغب الاشتراكية في الاستيلاء على الصناعات وتسليم إدارتها إلى الحكومة على أن توزع الحكومة منتجاتها بين أبناء الوطن على السواء، وأما النقابية فإنها بالعكس ترغب في إبطال تدخل الحكومة وتود تقسيم المجتمع إلى طوائف مهنية مستقلة.
ومع أن النقابيين يسخرون من الاشتراكيين ويصارعونهم فإن الاشتراكيين لم يألوا جهدا في كتم هذا الصراع، ولكنه أصبح من الظهور بحيث يتعذر إخفاؤه، وسوف يخسرون قريبا ما لهم من النفوذ السياسي، والسبب في توسع النقابية على حساب الاشتراكية هو تأليفها بين الاحتياجات المتولدة عن الاختصاص الصناعي في الوقت الحاضر.
حقا إننا نرى ظهور المذهب النقابي في بيئات مختلفة، ولم ينل هذا المذهب نجاحا في فرنسة كما في البلدان الأخرى، فقد أدى لبسه ثوبا ثوريا في فرنسة إلى سقوطه مؤقتا بين أيدي فوضويين لا يبالون بأي نظام ولا يفعلون غير اتخاذ المذهب المذكور آلة لتقويض دعائم المجتمع الحاضر، وهكذا يتعاون الاشتراكيون والنقابيون والفوضويون عندنا - مع اختلاف مبادئهم - على محق الطبقات المسيرة للأمة ونهب أموالها.
ولا تشتق المبادئ النقابية من مبادئ الثورة الفرنسية أبدا، وكثيرا ما تناقضها مناقضة تامة، فالمذهب النقابي يأمر بالرجوع إلى أنظمة إلبية قريبة من أنظمة طوائف المهن التي قضت عليها الثورة الفرنسية، وهو من المواثقات التي حرمت تلك الثورة تأسيسها؛ إذ يرفض النظام المركزي الذي أقامته الثورة المذكورة.
ولا يبالي المذهب النقابي بأي واحد من المبادئ الديموقراطية الثلاثة: الحرية والمساواة والإخاء، بل تطالب النقابات أعضاءها بالخضوع المطلق المبطل لكل حرية.
وليس عند النقابات من القوة ما يكفي لبغي بعضها على بعض، ولذلك نراها تتقابل كالإخوة، ولكن لا بد من تطاحن منافعها المتباينة عندما تنال ما تصبو إليه من القوة، وذلك كما حدث أيام العهد النقابي في الجمهوريات الإيطالية، فوقتئذ تنسى ما تبديه اليوم من الإخاء ويحل محل المساواة استبداد نقابي.
ويظهر أن ذلك الوقت قريب، فالسلطة النقابية تعظم بسرعة، ولا ترى أمامها سوى حكومة عزل لا تدافع عن نفسها، بل تخضع لمطاليب النقابات.
وقد استعاذت الحكومة الإنكليزية أخيرا بهذه الطريقة في نزاعها مع نقابة المعدنين التي أنذرت إنكلترة بوقف حياتها الصناعية إذا لم تحدد أصغر أجرة يأخذها المنتسبون إليها من دون أن يحدد أصغر عمل يقومون به، ومع أنه لم يكن هنالك ما يسوغ قبول هذا الطلب فقد رضيت الحكومة بأن تقترح على الپرلمان أن يضع قانونا موافقا له، وما ألقاه مستر بلفور من الكلام الرزين في هذا الموضوع أمام مجلس النواب جدير بإنعام النظر ، قال مستر بلفور:
إن بلادنا ذات التاريخ الطويل الحافل بجلائل الحوادث لم تجد نفسها تجاه خطر داهم كالخطر الحاضر، ومصدر هذا الخطر هو تلك النقابة التي تهدد صناعة مجتمعنا وتجارته بالفالج مع أن حياة هذا المجتمع قائمة على ما فيه من مصانع ومتاجر.
अज्ञात पृष्ठ