إنك لتدخل دارا فلا تتجاوز سدتها حتى ينقبض صدرك، وتحس بالرطوبة تتمشى في كل مفاصلك، وتشعر بقشعريرة في كل جسمك. وتدخل دارا أخرى فلا تكاد تتجاوز بابها حتى ينشرح صدرك، وتشعر بالانشراح والسرور الداخلي بلا سبب ظاهر، ما هذا إلا لأن للقاطنين تأثيرا في الأماكن، فتظهر عليها مسحة مما على ذوي الدار وأربابها.
إن المرء لينتقل من دار إلى أخرى، فيحن إلى القديمة ويمر بجدرانها فتذكره بكثير من حوادث الماضي والأوقات الهنية. وإنه ليتعلق بريحانة يغرسها على حافة النافذة ويتعهدها بالسقيا، وإنه ليحتفظ بأثر من الآثار وقد لا يساوي شيئا، وهو يجد في تلك الأشياء سلوة وعزاء وتذكارات لذيذة، تعيد إلى القلب شيئا من السرور أو السعادة الماضية، فهل يشعر أبناء هذا العصر بشيء من هذا الشعور؟ إن التحول الدائم والتغيير المستمر في الأماكن وشكلها ورياشها، وفي الأخلاق والأذواق والعادات، يترك الناس على غير هدى ومبدأ ثابت. •••
ألا إن دار العائلة هي الموئل الذي يجد فيه المرء الراحة عند التعب، والحب الطاهر إن عرف كيف يغرسه ويواليه حتى ينمو ويترعرع، فيقطف من ثمره الناضج وزهره العطر. وهي المكان الذي يجد فيه العزاء إن أصيب بمكروه، والعناية إن مرض والراحة إن شاخ وهرم، وفيها وبها يخدم الوطن ويخرج له أبناء صالحين يعملون لصالح البلاد ونفعها.
الكبر والاعتدال
ربما تعب الباحث دون أن يجد موضوعا غير الكبر يثبت به أن العقبات التي توجد في طريق الرقي الاجتماعي يخلقها الإنسان لا الظروف.
ولو كانت المصالح المتباينة والمراكز المتفاوتة هي وحدها سبب الخصومات، ومنشأ الشجار والعراك، لكان السلام سائدا بين المتكافئين في الطبقات والمراكز، وذوي المصالح المتماثلة، والحظوظ المتشابهة، ولزال من بينهم كل اختلاف. والحال أن أشد العداوات ما كانت بين المتناظرين المتساويين في الجاه والمراكز والثروة والمهنة، وبين الأنداد والرفاق. ولو أنصف الناس لاعترفوا بأن سبب الخصام والعداء إنما هو في الحقيقة الغطرسة والكبر؛ فهما يجعلان الرجل كالقنفذ ما مس غيره إلا وآلمه وآذاه.
الناس لا يغيظهم من الغني الوجيه وجاهته وغناه، ولا كثرة خدمه وحشمه، ولا فضته وذهبه، ولا زينته وظهوره، بل يغيظهم الاحتقار الذي يتعمده والتعالي الذي يظهر به. وما يسؤهم إن كثر مال زيد أو قل، ولا يضرهم إن تبرج وتزين، ولا يقهرهم إن استكثر من الخدم والأعوان؛ لأن كل هذا خاص به وليس فيه أذى للناس، ولكن يؤلمهم أن يجرح الرجل عواطفهم بتعاليه واحتقاره شأنهم وشموخه عليهم، حتى ليفترض عدم وجودهم وتجردهم من مميزات الإنسان، لا لسبب غير إكثاره وإقلالهم وغناه وفقرهم، إنه بذلك ليؤلمهم بلا فائدة يجنيها. وإن النفس العالية لهي التي تثور في وجه ذلك الشامخ الوقح، وليست هذه الثورة عن حسد، ولكنها إحساس العاطفة المجروحة التي تنزع إلى الثأر وتأديب المعتدي، وإلا فلا كرامة للنفس ولا قيمة، وكل امرئ خالط الناس وعرف واجبات نفسه وما عليها يعترف بصحة هذا القول، ولا يكابر أو ينكر التأفف والاستياء العام من كل متكبر مختال.
إن هذا الداء كثير الشيوع والانتشار حتى ليكون قدر الكبر على قدر الثروة أو يزيد، والوداعة على قدر الفقر والعوز فالغني يحتقر من دونه وشأنه مع الأكثر مالا وجاها شأن المقل في نظره؛ ولهذا هام الناس بالتطلع إلى ما فوق آفاقهم والوقوف في غير مصافهم، فنشأ عن ذلك التزاحم والعراك، ووجدت الخصومات في القلوب أبوابا مفتحة وأرضا ممهدة، فغرست فيها بذور المنافسة والشقاق، وليس الفقر هو السبب الرئيسي وإنما الكبر والصلف.
من الأغنياء كثيرون لم يصبهم هذا الداء الوبيل، وجل هذا الفريق ممن ورثوا الجاه والثروة أبا عن جد، فعلى قدر أنسابهم علت نفوسهم وطابت قلوبهم. ولكن أولئك أيضا يجهلون أن ظهورهم بالبذخ والإسراف والفخفخة يخلق الحسد في قلوب ذوي الفاقة، ومن لم تحصل أيديهم على فتات الموائد وثمالات الكئوس ومطرح الثياب الخلقة.
أليس من الذوق السليم اجتناب القوي الممتع بالصحة والعافية، ذكر ما يتمتع به من راحة وهناء في نومه ويقظته، وفي أكله وشربه أمام المريض الذي يدنو من ساعته الأخيرة ويهيأ له القبر؟ كثيرون من الأغنياء ينقصهم الذوق السليم والشفقة والحكمة؛ لأنهم بأعمالهم يثيرون على أنفسهم نفوس سواهم ويحركون عوامل الحسد، فهل يجوز لهم بعد ذلك أن يتأففوا من العواقب، أو يستاءوا من نتيجة المقدمات التي وضعوها بأنفسهم؟ إن ضعف التمييز هو الذي يجعل الأغنياء فخورين بما ملكوا، وينفث فيهم روح الاختيال والكبر.
अज्ञात पृष्ठ