وقد لا يقف حب الظهور عند حد الضوضاء والجلبة للإعلان عن النفس، بل يتعدى تلك الوسائل العادية إلى سواها مما يعد نقيصة وجريمة، فكأن نفس الشيطان تقمصت سائر الجسوم البشرية، فآذت الهيئة الاجتماعية بما تبتكره من الشرور والمفاسد.
والحقيقة المرة أن أغلب من ظهروا على مرسح الوجود، وطبقوا بشهرتهم جميع الآفاق، لم يصلوا إلى ذلك الأوج إلا من طريق الشر والرذيلة والخبث والتوحش. ولكن هذه النقائص التي تسقط أكرم الناس وتلطخ اسمه بأخبث أدران الشهرة السيئة تزول مسحتها مع الشهرة، فلا تراها العيون أو أن الناس يطبقون جفونهم؛ كيلا يبصروا هذه العيوب المذمومة، أو هم لا ينظرون إلى الإنسان إلا بالصفة التي يريد الظهور بها بينهم. والحال على عكس ذلك تماما مع كل من يسوء حظه ولا يفلح في نيل الشهرة، فإن الناقدين يجردونه ظلما من كل صفاته الحميدة، وينسبون إليه ما ليس فيه وما لم يكن من صفاته الحقيقية.
وليس الجنون حبا في الظهور خصيصا بذوي العقول السخيفة، أو برجال المال والدجالين والممثلين، وإنما هو جنون يصيب طوائف الإنسان بلا فارق ولا تمييز، وأشد ما تكون وطأته على رجال السياسة والأدب والعلم والدين، فإن هؤلاء الرجال الممتازين مع ما أوتوا من علم ومقدرة أكثر الخلائق تطلعا إلى الشهرة.
ومن المصاب أن رجل الخير الذي يعمل الطيبات يملأ الدنيا طبلا وزمرا حينما ينهض لعمل خيري؛ ليلفت إلى شخصه أنظار العالم ويستدر المديح والإطراء. وكم برزت العقول في استنباط الوسائل الشيطانية؛ للإعلان عن النفس والتغرير بالناس؟
لقد أعمى الغرور البصائر ووصل إلى حيث كانت الرزانة والتعقل، فهوش عليها وزعزعها حتى ضعفت مواهب الإدراك والتمييز؛ لكثرة التفنن في التغرير والتمويه، فلم يعد الإنسان يستطيع تقدير الأشياء قدرها الحقيقي؛ لما يحوطها من الوسائل المختلفة لإخفاء معالمها وإظهارها في أرقى من حقيقتها. وإذا كان العقل لا يهتدي إلى الحقائق في وسط الضوضاء فمن البديهي ضلاله وتخبطه بين كل هذه الظواهر الخداعة، حتى زهقت النفوس وضاقت الصدور تألما من الغرور السائد والضلال العام.
من يسأم العيش وسط الجموع، ويضره العشير الثائر ويؤذي مسامعه تنافر الأصوات يترك ذلك المكان، ويفزع إلى ناحية من الأرض الفسيحة؛ ليجتلي منظر الطبيعة الجميل ويعجب بمجرى الماء المتدفق بين المزارع بلا جلبة ولا حس، اللهم إلا إن كان له خرير يشجي ولا يسأم. وليس يسع الإنسان إلا الابتهاج بمشاهد الغابات وهدوها الشامل، فيرتاح إلى الوحدة وتنقشع عن عينيه السحب الخداعة، فيرى بهاء الكون وجمال الحياة بين هذه النعم التي خلقها الله للمرء، فعافها كفرا بالنعمة وتطلعا إلى ما يشقي ولا يسعد فكان كفورا غشوما.
إن العزلة والبعد عن المجتمع الفاسد المضلل خير من الحياة المتعبة وسط الجموع التي ترى الراحة في الخداع والغش؛ ابتغاء المنفعة الشخصية والرقي، ولو فوق أكتاف الناس ورءوسهم. ما أشهى الحياة بين مناظر الطبيعة الجميلة وبين الحيوانات الهائمة على وجهها؛ فإنها أكثر إيناسا من الإنسان الخبيث، وأقل أذى وضرا من هذا الوحش المتحضر!
إن من يرتطم في المدن ويحشر بين الزمر والجموع يشقي نفسه وينسى الخالق؛ لأنه لا يذكره، ولا يتمكن من رؤية السماء التي تظله، ما دام لاهيا بما أمام عينيه من مشاهدة تلك الصحيفة الصافية، وعما فيها من الكواكب المتلألئة والنجوم الزاهرة المتألقة، فإذا خرج من تلك الدائرة إلى حيث تقل شرور الإنسان عاوده العقل والشعور، وشاهد جلال الخالق في جلال صنعه وشعر بسرور النفس وارتياحها إلى الوحدة والابتعاد عن ذلك الوسط الموبوء.
اخرج إلى الفضاء غير المحدود، حيث تخشع النفس هيبة وإجلالا، وانظر إلى الأفق المترامي الأطراف، وهو يشير إلى أبواب الأبدية تعرف حقارة الإنسان المختال، وانظر إلى الأزهار العطرة في المرج الزاهر، وألوانها الزاهية وأشكالها البديعة تعرف قصور المخلوق عن مجاراة الخالق المبدع، وتشعر بضعف ذلك المكابر المعتد بنفسه.
إن الصانع القدير يعمل بلا جلبة ولا يتكلف أقل عناء لإظهار مقدرته على الإجادة والإبداع، ويترك الناس تبحث عنه وتنقب عن إجادته وإبداعه، فلا تخدعن العاقل المظاهر والظواهر. وليعلم أن كثرة الإعلان دليل على حقارة المعلن عنه، فإن التجارب العديدة أثبتت صحة هذا القول، وما على الإنسان غير الاختيار والتجربة ليخرج الشك من صدره ويقف على الحقيقة الكاملة.
अज्ञात पृष्ठ