انظر إلى السكير المدمن فإنه لا يكف عن الشراب مهما كرع، حتى لتتمزق أحشاؤه ويلتهب دماغه قبل أن يروى ويكف. وانظر إلى الوقاحة، فإنها لا تلطف حدة المعتدى عليه، بل تزيده حنقا وغيظا. إن من يرخي لنفسه العنان، ويتبع مطالبها، ويجنح إلى ميولها يقوي رغباتها، ويعدد مطامحها حتى لا تقنع، ويكون شأنها شأن الميكروبات التي توضع في بعض السوائل؛ لتقتل وتعدم وتكون صالحة لها فتزداد وتنمو بكثرة هائلة.
وكل ظن يكون منشؤه توهم السعادة في الغنى، ونيل حاجات النفس وشهواتها باطل غير حق؛ لأن من يملك الملايين يطمع في سواها ولا يقنع بما ملكت يمينه، ومن تصل يده إلى الآلاف تتطلع نفسه إلى الملايين، ويموت بحسرة الحصول عليها. والبطن الذي يحصل على الدجاجة تتوق نفسه إلى الأوز، ثم إلى الخراف فإلى الغزلان، وهكذا تتنوع ميوله وتتجدد أماني نفسه وهو ضجر مكد تعب.
وهنالك كثيرون من الفقراء تتوق نفوسهم إلى عيش ذوي الثروة والسعة، فيخرج العامل عن حده وقدرته ليظهر في مظهر ذوي الجاه. وتقلد الفتاة الفقيرة بنات البيوتات الكبيرة في الزي واللباس. ويقامر الموظف في أندية الأغنياء ورجال المال فيضيق ذرعه بمقتضيات ذلك الوسط المبذر، ويزيد إنفاقه على كسبه فتسوء العاقبة. وكثيرا ما يغفل ذلك النفر المشتط المقلد عن أن ما يضيع في سبيل الظهور يفيده في شئون أكثر نفعا له ولذويه، لو أحسن التصرف واعتدل في عيشه وإنفاقه.
والرجل عبد الملاهي والملذات، وأسير النفس الطموحة الجشعة أكثر شبها بالدب توضع في أنفه حلقة حديدية فيقتاده بها الإنسان؛ ليرقص ويلعب، وهو مرغم لا يملك من أمر نفسه شيئا. وليس هذا التشبيه لمجرد التشنيع والتحقير وإنما هو الحقيقة المرة التي لا بد من الاعتراف بها. إن هذا الفريق من الناس مسوقون إلى أسوأ حال، ومنهم من يضحي بأعز ما يحتفظ به الإنسان في الحياة الدنيا، العرض والشرف؛ لنيل ما يرضي النفس ويقضي مطالبها، وعذرهم في ذلك كثرة الحاجات والافتقار إليها، وهي دعوى فاسدة؛ لأن الكفاف سهل الإدراك، ولا يكلف المرء عناء طويلا، ولا يسوقه إلى الحضيض الدنس الملوث.
ولا يستطيع أن ينبئك بنتيجة هذا السقوط غير أولئك النسوة اللائي بعن الطهر والعفاف، وارتمين في أحضان الرذيلة، فساقتهن إلى أتعس المواقف وأحط منازل الحياة، ليسألهن سائل عما وصلن إليه، وعن أسباب هذا السقوط، وعما إذا كن في حال مرضية وعيش رغد وراحة وطمأنينة مع ما هن عليه من الزينة والتبرج، فيعرف مقدار الشقاء والبؤس الذي يحيط بهن ويجعلهن آسفات على الحياة السالفة والأيام الماضية.
وفي الناس رب عائلة يعولها بما استطاع تحصيله من عمل شريف يضيق صدره وذرعه بمطالب زوجته، وتقصر يده عن إرضاء رغباتها، فيدفعه الحنو والحب إلى المهاجرة إلى حيث الربح الوفير والمال الكثير؛ ليستطيع إرضاء تلك الخبيثة الطموعة. وهي تبسط يدها بالإنفاق وتبعثر ما جمعه الزوج التعس بعرقه الغزير وتعبه المضني، غير شاكرة له يدا ولا معترفة له بجميل؛ فتتولاه السآمة والملل ويتناوبه الضجر، فينزع من قلبه الحنان والشفقة، ثم يقبض يده المبسوطة، ويترك تلك الشيطانة تسخط عليه، وتلعن الزمان والطبيعة والنوع البشري وتملأ الجو أنينا وعويلا. ولو أنها اعتدلت في مطالبها وراعت ظروف الحال ودخل زوجها، لبقيت في رغد دائم، وعملت على سعادة العائلة، ولما خسرت عطف رجلها وحبه الأول.
ولا شك في أن مثل ذلك العائل المنغص عيشه يجتهد أن ينسى أحزانه بضروب اللهو، فيشرب الخمر ويقامر ويتغزل حتى يتورط شيئا فشيئا، فلا يلبث أن يبلغ سبيل الرذيلة، ويركب متن الحرمات فينتهكها جهارا، وتفسد أخلاقه، ويتأصل فيه الداء فيعز شفاؤه، وتكون النتيجة سقوط العائلة وخراب الدار. وكم من العائلات التي يكون في وسعها العيش بهناء ينزل بينها الشقاء والبؤس؛ لضياع العواطف الحية من قلب رجلها العائل ولنسيانه الواجب، فلا تجد في أفرادها غير والدة أنحلها الحزن وأضناها الهم والتفكير، وأطفال عراة حفاة يعوزهم الخبز والماء والهواء؛ لكون ذلك الأب القاسي يبذر كسبه في غير ما يحتاجون إليه من مطالب الحياة، ويفقد ماله في سبيل شهوة النفس وأهوائها الكثيرة.
ولو اعتدل الناس في أمورهم وأنفقوا ما يكسبون في قضاء حوائجهم الضرورية لما عرفوا الحياة من وجهها الأسود، ولكانوا في غنى عن الاستياء والتذمر، ولأمكنهم أن يواسوا المحتاج بما يتجاوز حاجتهم معاونة تبهج النفوس، وتشرح الصدور، وترضي الضمائر. ولكن الإسراف يستنزف الكثير والقليل ويترك الناس في عوز دائم، فلا يشعرون بقدر النعمة، ويأخذون باليمين من خزائنهم ما يبذرونه باليسار في شهواتهم بلا لذة ولا تنعم. وأنى لهم أن يعرفوا طريق السعادة والهناء وهم على هذا الشطط القبيح؟
إن الخضوع لشهوة النفس ومطالبها الجمة يودي بالسعادة والاستقلال الذاتي وحسن الخلق، وينتج اعتلال الصحة وضياع الثروة، ويلهي بالحاضر عن فضائل الماضي، ويشغل عن التطلع إلى المستقبل، ويكون سببا لبيع الزرع ودر الضرع والاقتراض بفاحش الربا؛ للتمتع برهة من الدهر وحينا من الزمن ترى بعده الحياة عبئا يضني وحملا يتعب، بعد أن يجف مورد الثروة ويقفل باب الكسب. ثم يستنفد الدين القليل المرهون فيمر العيش، وتتنغص الحياة، ويكثر الهم والتفكير، وتخلق الأمراض، ويجيء الفقر فالعوز، فيشتد التطلع إلى ما في يد الناس؛ فيكون هذا منشأ الخصومات والمشاكل فتسوء الحال وتتعدد الجرائم المخلة بالأمن ونظام الاجتماع.
وعلى عكس ذلك إذا اعتدل كل في حاجاته وضروريات العيش يتأتى اجتناب هذه المكدرات، ويسهل اتحاد الهناء والسعادة بكل مميزاتهما الحسنة المنشودة. ولا يغربن عن الأفكار كون القناعة من أحسن الوسائل التي تكفل الراحة والاطمئنان إلى المستقبل، وكون الحمية رأس الدواء. ومن عرف ذلك وجعله محورا لتصرفه دفع عن نفسه الأضرار التي تشقي وتحزن، وحفظ صحته وعقله من الفساد؛ لأن الاعتدال والبساطة في المأكل والملبس والمسكن من خير ما يمتاز به العاقل الحكيم، وعلى قدرهما في أحوال المرء تكون الثقة بمستقبله؛ إذ يكون في أمن من الطوارئ السيئة وعواقبها الوخيمة، ويكون له مما يدخر عون على المرض والعطلة، وكلاهما عارض محتمل الوقوع.
अज्ञात पृष्ठ