والإيمان يقوي الفكر ويقيه شر الاندفاع إلى ما وراء المعلوم، ويوقفه عند الحد الجائز، ويجعله كثير الثقة بالخالق، وبخلود العالم إلى ما شاء الله، وبحسن عناية الله بنظام الوجود وسائر الكائنات، فيرتاح خاطر الإنسان ويطمئن ويعيش هادئا آمنا، كما تعيش الأزهار والأشجار والحيوانات وسائر المخلوقات التي لا تفكر ولا تبحث في كيفية الوجود وسر الحياة.
والعقيدة الثابتة تجعل الإنسان واثقا من إشراق الصباح، وانسدال الليل، ونزول الأمطار في أوانها، وجري الأنهار والجداول إلى مصابها، ومن وجود الهواء الكافي للخلائق، وسائر الحاجات الضرورية للحياة، ودوام وجود هذه الضروريات؛ لأن كل ما كان لحاجته وحكمته يكون ويبقى ولا يتلاشى، فالتوكل من أسباب الراحة والطمأنينة، ولما كان هذا المبدأ مدعاة النشاط وحب الحياة فهو يحسن الحياة ويجملها.
الإيمان هو السر الوحيد الذي ينعش النشاط في الإنسان ويجدده ويدفعه وراء الرزق، فيسعى في مناكب الأرض ويضرب في مناحيها طلبا للعيش وضروريات الوجود، فكل ما يزعزعه يكون شرا على الحياة من السم الزعاف، كما أن من شر المصائب التي عم ضررها على الاجتماع، واشتدت الشكوى منها انتشار الفلسفة العقيمة، التي تؤدي إلى تنفير الناس من الحياة، وتحويل أنظارهم عن جلالها وحسنها، وتصويرها في أشنع الصور وأفظع الأشكال.
ولو سألت أحد أولئك الدعاة عما اكتشفوه من العلاج، وهل في الاستطاعة ملاشاة الحياة في ذاتها - ولا أقصد بذلك إزهاق النفس، بل زوال سر الحياة وحقيقة الوجود - لكان الجواب سلبا. أوليس الأجدر إذن بالناس أن يحترموا سر الوجود، ويتركوا غيرهم يتمتع بالحياة بدلا من أن ينغصوا على أنفسهم وعلى الناس العيش ويقللوا الراحة؟
وإذا كان المرء لا يأكل شيئا وثق من ضرره وعدم صلاحيته للأكل، أفليس الأخلق به أن يطرد عنه كل الأفكار السخيفة التي تؤذيه في الحياة أثمن هبات الله ومنحه للإنسان؟
لا يوجد من أولئك الفلاسفة المتشدقين بأقوالهم من أقام دليلا منطقيا يحط من قدر الحياة، وينفي سرها الإلهي العجيب؛ لأنه يجب على من يريد الدليل أن يفحص الحياة أولا، ويعرف ينبوعها وأسرارها حتى يستطيع الحكم والتعليل، وذلك ليس في استطاعة الإنسان ولا في قدرته. ومع وضوح هذه الحقيقة فكم نرى أولئك المشاغبين يتحمسون في صيحاتهم ونشر آرائهم! كأنما هم الذين خلقوا العالم وأحاطوا علما بما فيه من أسرار غامضة وعجائب مدهشة، وهذا نهاية في الحمق وغاية في الجنون، فخير للإنسان أن يغذي فكره بالآراء الصالحة، ونفسه بالحقائق الثابتة بدلا من أن يقتله بالسفسطات والأباطيل. •••
الأمل هو الثقة بالمستقبل، والحياة - في ذاتها - عبارة عن رغبة وعمل ونتيجة، وكما لها بداءة فلها نقطة اتجاه ونهاية. وكل إنسان يؤمل قبل أن ينال، وينال بعد أن أمل، وعلى قدر قوة الأمل ومقداره يكون المستقبل، فالأمل ضروري؛ لأنه لا حياة بدونه.
والقدرة التي خلقت النفس وأوجدتها بعثت فيها الأمل، وحثتها على التطلع والطموح، وإلا فلا معنى للخضوع للشرائع السماوية، ولانتظار الأجر والثواب في الدار الأخيرة والنعيم المؤمل. وكل حوادث الحاضر تدل دلالة واضحة على أنه لا يتم شيء في الوجود بغير الأمل؛ فالعابد يعبد الله أملا في خير الجزاء، والصانع يجهد نفسه ويعمل أملا في الأجر، والتاجر يخاطر بأمواله ويكد ويكدح أملا في الربح. فلولا الأمل لما كانت عبادة ولا صناعة ولا تجارة ولا حرفة ولا مهنة. ولولا الأمل لما كان الوجود. والتاريخ أكبر شاهد على أن الأمل وحده هو الذي نشط بالخلائق إلى مراقي الفلاح وذروات المجد والسؤدد، ولولاه لما فاز العالم بهذا النصيب الوافر من الإثراء والرقي الأدبي والعلمي. الأمل يخفف الأحمال الثقيلة ويلطف الآلام، ويساعد العاثر على النهوض والمعدم على تحمل أرزاء الفقر والعوز، ويحول بينه وبين اليأس الوبيل. الأمل أكبر عزاء للمنكوب، وأقوى أساس لنظام العالم.
ولو قيد الإنسان فكره بالحقائق الواضحة، ولم يقتنع بغير الأدلة العقلية، والحجج المنطقية لاستنتج أن الموت هو النهاية الوحيدة لكل الكائنات الحية، وأنه السيف المسلول الذي يهدد الحياة في كل لحظة؛ فيشتغل به الفكر رهبة منه، وينظر إلى الحياة من وجهها الأسود فيتلاشى الأمل ويقل نشاط العاملين، وتقف حركة العالم ويتطرق الخلل والجمود إلى هذا المجتمع العامل النشيط. ولكن الأمل - والحمد لله - باق وله النفوذ الأقوى في نفوس الخلائق وأفكارها، وهو المنشط الوحيد الذي يجعلها تتعلق بالحياة ومتاع الدنيا فتعمل وتجد.
فحتم على العاقل ألا يحقر طموح النفس وتطلعها إلى المستقبل، بل يجب عليه احترام هذا الأمل أينما كان، وعلى أي صورة وجد، سواء تمثل له في رأس الطائر الذي يجمع القش لبناء عش لفراخه، أو في نفس الحيوان الطاحن المجروح، الذي يقع ويقوم في كل خطوة من خطواته ساعيا وراء رزقه، أو باحثا عن ظل ظليل يرقد فيه ليستريح، وسواء في قلب الفلاح الذي يقضي نهاره في الحقل عاريا يحرث ويفلح الأرض ويبذر أو يروي أو يحصد.
अज्ञात पृष्ठ