يحاول الناس استخراج القواعد من مجموع الأحوال المتغايرة، ولكن كم يلزم من الزمن والتجاريب والتعب والعناء لتقرير حقيقة صغيرة في كلمات مسطورة؟
هذا هو حالهم في أمر التربية الأخلاقية، فكم يخلطون ويتطوحون ويبحثون ويجربون فيضلون شأوهم ويتيهون عنه. ولعل الإنسان مع توالي العمل والتحقق من كل شيء بالغ من معرفة أسرار الحياة وحل رموز المشاكل، حيث يستطيع استنتاج القاعدة العامة والقانون الأساسي للنظام؛ وهو «عمل الواجب». وكل ساع إلى غير هذا الغرض العام عابث بالقصد من الحياة، وقاض على نفسه بالخروج من عالم الأحياء العاملين، وما هو في الوجود إلا الحي الميت، لا شأن له ولا قيمة. وممن يهملون هذا الغرض الشريف الأناني والطماع والبهيمي عبد الشهوة؛ أولئك الذين يعبثون بحياتهم عبث الزارع بزرعه إذا حصده قبل أن يثمر وينضج. أما من يضحي حياته في سبيل الكمال فإنه يحييها ويرقيها ويربحها ربحا.
والقواعد الأخلاقية التي تظهر شاذة لصغار العقول وقصار المدارك، وتلوح لهم من الوسائل المضعفة من النشاط المقوضة لأركان الحياة، لم يشاهدوها إلا معكوسة، ولم ينظروا إليها إلا بمنظار أسود؛ لأن كل المبادئ السامية ترمي إلى رقي الحياة وإلى إعداد النفس للكمالات. ولهذا ترى النزر الأعمى المضلل يحوم حول نقطة واحدة؛ وهي الحرص على الراحة والحياة المادية. وهذا يخالف كل التعاليم الصحيحة العالية؛ لأنها تدفع الإنسان لبذل الحياة، واحتمال النصب في سبيل استثمار المجهودات النفسية، وترقية الروح للتكمل بجليل الصفات.
وعلى قدر الجهد الذي يبذله الإنسان لنفعه وخيره الخاص يكون مقدار تمسكه بالمبادئ التي تعب في اكتسابها، واقتنع بسموها وتحقق صلاحها. وعلى قدر تمسكه بها تكون قيمته الأخلاقية ومركزه الأدبي. ثم يسير في طريق الحياة وله وجهة معروفة وخطة مرسومة، واثقا من نفسه بعد طول التردد والشك، عالما بمجاري الأمور والأحوال بعد الجهل والتخبط، فيستطيع إذ ذاك الحكم في الأمور وتمييزها بصورة لا تقبل النقد والتثريب. حتى إذا تشبعت روحه من حب جلال الحياة الحقيقية وشرف المبادئ السامية، وانصرفت إلى الحقيقة وحب العدل بقي لذلك أثر خالد في قلبه لا يزول ولا يمحى، وتكملت نفسه بسائر الصفات الممدوحة وصار للوجود مطلق السلطة والنفوذ؛ فيصغر العرض أمامه ويتلاشى فيشمل النظام أحوال الإنسان وأعماله، ويكون معتدلا بالمعنى المقصود بالاعتدال.
انظر إلى الجيش تجده قويا كلما حسن نظامه وأحكمت قيادته. والنظام قائم باحترام المرءوس للرئيس وبالقصد إلى غرض معين من طريق معروفة، فإذا ساد الخلل نزل الضعف منزلة النظام وأغار الوهن على القوة فتركها بددا.
وليس من النظام أن يخضع القائد للجندي. وهكذا يكون الحال في شئون الإنسان والهيئة الاجتماعية فينبغي أن يخضع المرءوس للرئيس بوجه عام، فحيث ترى خللا سائدا أو ثلمة في نظام الاجتماع فكن على ثقة من أن منشأها تجاوز الفرد حده وشروده عن محجة الصواب. وفي كل بقعة من الأرض نبت فيها الاعتدال ووقفت نفوس أبنائها عند حدودها وقنعت بحظوظها؛ ترى النظام تاما كاملا حقيقيا بأجلى مظاهره ومعانيه، فإذا ما عرفنا قدر الاعتدال قلنا: إن كل تعريف له قاصر عن بيان معناه تماما، وإن كل عبارة واقعة دون المرام، وكل قوى العالم وجماله وجلاله، وكل المسرات الحقيقية التي تعزي الإنسان وتقوي الأمل، وكل الحقائق التي تضيء طريق الحياة ومهاويها المخيفة؛ هي من نتائج الاعتدال، ومن أعمال المعتدلين الذين لم تستعبدهم النفس بأميالها المتعددة، فغلبوها ورموا إلى الغايات الشريفة والأغراض الوجيهة السامية، ولم يتركوا لحب الذات والزهو سبيلا إلى قلوبهم؛ لأنهم عرفوا أن الرفعة الحقيقية وقيمة الحياة في العمل الجليل والذكر الخالد.
الفكر والاعتدال
لا يكفي للإنسان أن يسعى لترتيب أموره الدنيوية وأحوال معيشته وحياته، بل يجب أن يهتم أيضا بفكره فيطهره من كل الأدران التي تشوبه وتضلله؛ لأن الفكر السخيف منشأ الاختلال والفوضى، ولما كانت طريق الحياة وعرة كثيرة العقبات والمزالق وجب أن يكون الفكر سليما صحيحا؛ ليتيسر له تمييز الغي من الرشد، واطراح كل رأي سقيم ومعتقد باطل لا يظهر الإنسان بمظهر الرجولة الصحيحة، ولا ينشط به إلى طريق الكمال والرقي.
الفكر أداة من الأدوات النافعة للمجموع، وليس من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها؛ فيجب الاهتمام به اهتماما كليا وتربيته تربية كفيلة بالتثقيف والتقوية؛ ليؤدي الوظيفة التي خلق لها، وإلا فلا فارقة تميزه من خواطر الحيوانات والهامات.
أطلق قردا في مكان أحد المصورين تجده يبتهج لمرأى الرسوم والصور وأدوات الرسم، فيتنقل بينها مسرورا، ثم يعود فيعبث بها، فيحطم اللوحات البديعة؛ لينظر ما وراءها، ويمزق الأقمشة بأنيابه الحادة؛ ليرى ما في باطن صورها، ويذوق مواد الألوان، ثم يمتعض لطعمها فينثرها في أرض الغرفة، ولا يترك شيئا في مكانه. ولا شك في أن القرد يسر بما يعمل ويلهو بهذا الإتلاف، ولكن أماكن المصورين لم تخصص للقرود، ولم تنسق ليتلفها هذا الحيوان الخبيث. فكذلك الفكر ليس مكانا للتجارب البهلوانية، ولم يخلق للهو به وإجهاده فيما لا يفيد، ومن أشد الأخطار على الإنسان أن يجعل فكره لعبة يسلو بها ويلهو، فلا يكون يوما ما فكرا راقيا يميز ويدرك.
अज्ञात पृष्ठ