रूसो: एक बहुत ही संक्षिप्त परिचय
روسو: مقدمة قصيرة جدا
शैलियों
أقر روسو بأنه كان في البداية في حالة من الشك الذي طالب به ديكارت سعيا للحقيقة، هائما دون دفة ولا بوصلة في بحر شاسع من الآراء، تتلقفه عواطف جامحة في غياب إرشاد كاف من الفلاسفة الذين أجمعوا وحسب على أنهم يجب أن يخالف الواحد منهم الآخر، حتى المتشككين المعلنين عن موقفهم والمتشددين بعناد في نقدهم المدمر (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). ولما وجد في الفلسفة دواعي للعذاب أكثر من الخلاص من ذلك الشك، لجأ روسو بدلا من ذلك إلى النور الذي بداخله، والحب البسيط للحقيقة الذي سمح لقلبه بأن يرشده إليها. وبهذه الطريقة، سرعان ما اكتشف وجوده، وأنه يمتلك حواس لا بد أن علتها خارجة عنه ما دامت لم يستدعها بفعل إرادي منه. استطاع روسو أن يرى من خلال حواسه نفسها أن كلا من موضوعها ومصدرها مستقلان عنه؛ مما يعد دليلا على وجود كيانات أخرى بخلافه. وبالنظر إلى المادة التي تكون منها الكون وهي تتحرك، أدرك روسو أنه لا يستقيم أن تكون هناك حركة دون اتجاه، ولا يمكن أن يكون هناك اتجاه دون علة تحدده. وتشير الحركة الحتمية إلى وجود إرادة، والإرادة تشير إلى وجود ذكاء. قال الكاهن إن هذا هو الركن الثاني من عقيدته. وزعم أن مثل هذه الإرادة حكيمة وقوية بشكل بديهي، ومنتشرة في السموات التي تتعاقب، والأحجار التي تسقط، وأوراق الأشجار التي تحملها الريح. وادعى قائلا: «أرى الرب في كل مكان في أعماله، وأحس به في نفسي» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية).
وعلى الرغم من أنه لم يكن على دراية بأي شيء عن نظام الكون بخلاف ضرورة وجوده، استطاع الكاهن مع ذلك أن يقدس خالقه لجمال صنعته. علاوة على ذلك، استطاع أن يرى من خلال تفحصه لعقله أن إرادته مستقلة عن حواسه، وعلى فرض الاستقلال المتساوي لإرادة الآخرين، استطاع أن يرى فوضى «الشر على الأرض»، متمايزة عن انسجام الطبيعة، المنبثقة منها؛ أي من حرية تصرف البشر الذي يشكل قبولها الركن الثالث للعقيدة بالنسبة إلى الكاهن (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). ينبع سوء السلوك البشري من حرية الاختيار، ولا يمكن عزوه إلى العناية الإلهية، بحسب تأكيده؛ وذلك لأن الرب خير وعادل (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). وادعاء أن الرب أخفق في منعنا من ارتكاب الشر احتجاج على غرسه للأخلاق في البشر؛ وذلك لأن الرب، كما لاحظ روسو بالفعل في رسالته إلى فولتير عام 1756، منحنا الحرية بحيث يمكننا اختيار الخير ونبذ الشر. وجعله إيانا قادرين على الاختيار يستبعد اختياره نيابة عنا. وعندما نسيء استغلال قدراتنا، ونقترف الشرور، فإننا لا ننفذ مشيئة الرب بل مشيئتنا نحن. قال الكاهن: «أيها الإنسان، لا تبحث بعد ذلك عن خالق الشر؛ فهو أنت!» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)، وكأنه يكرر الألفاظ التي نطق بها الشيطان في «الفردوس المفقود» لميلتون التي سجلها روسو بنفسه في النقش الخاص باللوحة العاشرة في «إلواز الجديدة»: «إلى أين المفر؟ الشبح داخل قلبك» (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ جولي أو إلواز الجديدة).
على النقيض من لوك، أصر كاهن سافوي على لامادية الروح، وكذلك على خلودها، ولو أنه أقر بالجهل فيما يتعلق بما إذا كان الشرير سيلعن لعنا أبديا، وأقر كذلك بلامبالاته بمصير هذا الشرير. وإذ استشار حسه الداخلي فقط، اكتشف أنه يستطيع على الأقل أن يصدر أحكاما أخلاقية من شأنها تحديد مصيره. «كل الشر الذي تسببت فيه خلال حياتي كان بدافع التأمل والتدبر. الخير اليسير الذي فعلته كان بدافع الغريزة»، هكذا أعرب روسو عن تحسره لاحقا في رسالة غير مكتملة كان من المقرر إرسالها إلى الماركيز دي ميرابو (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 5792)، مسترجعا أبياتا شهيرة من أوفيد وبولس إلى الرومان. في قسم «عقيدة كاهن سافوي» من كتاب «إميل» وفي رسالة روسو اللاحقة إلى السيد فرانكييه وفي مواطن أخرى، أطلق روسو على الغريزة الطبيعية هذه اسم «الضمير»، مستلهما ذلك تحديدا من «خطاب عن وجود الله وصفاته» (الفصل الثاني) للفيلسوف وعالم اللاهوت الإنجليزي صامويل كلارك، ويصفه بأنه «مبدأ فطري للعدالة» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية) أو الصوت الداخلي للروح الذي يقف منها على المسافة نفسها التي تقفها الغريزة من الجسد. الضمير هو ذلك الصوت الخالد الإلهي، المرشد الذي لا يخطئ أبدا الفضيلة، هكذا زعم الكاهن الذي مجد الرب لمنحه لكنه لم يكن يصلي له. فإذا صلى له، فماذا كان يمكن أن يطلب؟ لم يكن ليطلب القوة لفعل الخير التي وهبها له الرب بالفعل، ولا أن ينجز له عمله نيابة عنه؛ عمله الذي حصل على مقابله. ألم يمنحه الرب بالفعل الضمير ليحب الخير، والعقل لتمييزه، والحرية لاختياره (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)؟
شكل 5-2: اللوحة العاشرة («إلى أين المفر؟») للفنان جرافلو من رواية «إلواز الجديدة» (أمستردام، 1761).
في الجزء الثاني من «عقيدة كاهن سافوي»، الذي يختتم بإعلان الكاهن عن رغبته في أن يظل كاهنا بأبرشية، ودعوة لروسو الشاب بأن يتحلى بالصدق ويعزز روح الإنسانية بين المتعصبين، وضع روسو الدين الطبيعي في مقابل الإيمان العقائدي والمعجزات والوحي. وذكر روسو أننا إذ نتعرض إلى المشهد العظيم للطبيعة التي تخاطب أبصارنا وقلوبنا وحكمنا على الأمور وضميرنا، يبدو لنا من الغريب أن الأمر لا يستدعي وجود أي دين آخر على الإطلاق. ورغم ذلك، يقال لنا إن الوحي ضروري لتعريف البشر بالطريقة التي أمر الرب بها أن يعبد (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). في أوروبا وحدها، لدينا ثلاث ديانات أساسية، واحدة منها تعترف بوحى واحد، والثانية باثنين، والثالثة بثلاثة، وكل ديانة تمقت الديانتين الأخريين وتلعنها، بالإشارة إلى الكتب التي نادرا ما تكون مفهومة حتى للمتعلم، فاليهود لا يفهمون العبرية القديمة، ولا يفهم المسيحيون العبرية القديمة أو اليونانية القديمة، ولا يفهم الأتراك العربية. ورغم ذلك، في كل حالة، فإن ما يتعين على كل إنسان أن يعرفه محصور في الكتب، الكتب دائما وأبدا، تلك التي تعج بها أوروبا (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). وفي كل مرة أخذ رسل الرب على عاتقهم مهمة تفسير معانيه، دبروا أن يجعلوه ينطق بما يشاءون بواسطة الإشارات والمعجزات الغامضة بالنسبة إلى الآخرين، والمستدعاة عامة لتبرير اضطهاد المهرطقين. إن العالم الخالي من المعجزات على نحو خارق هو أكبر معجزة بحد ذاته (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية).
وعندما لا يطارد ناقلو وحي الرب المهرطقين في بلدهم، فإنهم يرسلون بعثات للتبشير بعقيدتهم بالخارج، منذرين كل الذين لا يتبعونهم باللعن الأبدي. ونادرا ما تواتيهم الجرأة على الحديث عما هو أبعد من هذا. فأي مصير ينتظر أرواح الزوجات الشرقيات المستعبدات في الحريم؟ هل سيدخلن النار عقابا لهن على عزلتهن الشديدة (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)؟ أقر الكاهن بأن قداسة الإنجيل بطبيعة الحال كانت تخاطب قلبه. وبالطبع هناك فضيلة سامية في تعاليم المسيح لا تقل نبلا عن حكمة سقراط. وحياة وموت المسيح تثبتان أنه كان إلها. لكن هناك مواطن عدة في الإنجيل نفسه لا يصدقها عقل، وينفر منها المنطق، ويستحيل أن يتقبلها أي إنسان عاقل (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). لنجعل كلمة الرب أقل غموضا. هل وهب لنا الرب ملكة العقل ليحرمنا من استخدامها؟ ألا يفترض أن نخدمه على أفضل ما يكون دون مساعدة؟ قال الكاهن بإصرار: «إن الرب الذي أعبده ليس روح الظلال» المستترة في الكتب (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). لنغلق كل الكتب، ونتبنى بدلا منها حقيقة الرب البسيطة؛ لأنها محفورة في كل اللغات، ويسهل للناس أجمعين الوصول إليها في كتاب الفطرة المفتوح (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). كان روسو يعتقد أن رب الوحي يتكلم بألسنة متعددة جدا؛ لذا قال: «إنني أفضل لو أسمع الرب نفسه ... فهناك بيني وبين الرب عدد كبير جدا من الوسطاء!» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية).
كان ينبغي أن يكون روسو أقل اندهاشا مما كان عليه من أن مثل هذه التأملات حول جوهر الدين والمسيحية في «العقد الاجتماعي» و«إميل» لم تحظ على الإطلاق بترحيب الكنيسة في فرنسا. لقد أخذ فولتير حذره بشكل كاف ببث نقده العنيف للكاثوليكية الرومانية من الجانب الأكثر أمنا للحدود الفرنسية، لكن روسو كتب بحماس شديد، ودون أن يتأهب لردة الفعل الرسمية، في الدولة التي أقام فيها لاحقا، متكئا على الحرية الفنية لصوره الراقية إثر نشر كتابه «العقد الاجتماعي» في هولندا و«إميل» بالتزامن معه في كل من هولندا وفرنسا. ولقد ملأه حظر أعماله في جنيف الذي حال دون فراره إلى وطنه بحزن أكبر. وفي أغسطس 1762 عندما أصدر رئيس أساقفة باريس منشورا يدين فيه المبادئ المدمرة الواردة في «إميل» بعد أن أدانت السوربون العمل رسميا، وأمر برلمان المدينة كبير الجلادين بحرقه، كان روسو قد فر بالفعل من فرنسا. واحتج روسو في رده الذي يشكل أطول كتاباته المخصصة لعلم اللاهوت، «رسالة إلى كريستوف دي بومون» المنشورة في أوائل عام 1763 قائلا: «قرينتكم الوحيدة ضدي هي الاستشهاد بالخطيئة الأصلية.» وتساءل روسو: كيف يمكن أن يجعلنا الرب أبرياء ليتبين ببساطة أننا مذنبون وبذلك نساق إلى الجحيم؟ أليس مبدأ الخطيئة الأصلية القاسي صنيعة القديس أوغسطين وعلماء اللاهوت في المقام الأول وليس الإنجيل؟ ألا نتفق معا على أن البشر جبلوا على الخيرية ، بينما تزعمون أنهم جبلوا على الشر؛ لأنهم خلقوا كذلك، فأثبت أنا بدلا من ذلك أنهم في واقع الأمر أصبحوا أشرارا؟ أي منا أقرب إلى المبادئ الأولى؟ وأصر روسو أن عمله «إميل» كان بشكل أساسي موجها للمسيحيين، الذين يتم تطهيرهم من الخطيئة الأصلية بالتعميد، فيمسون أنقياء القلب كما كان آدم عندما خلقه الرب (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع).
عقد روسو الأمل على أن يجد في جنيف ملاذا له، ولكن عندما أحرقت حكومتها، ممثلة في المجلس الصغير، عمليه «إميل» و«العقد الاجتماعي» في يونيو 1762 - لما فيهما من معصية مشينة وتهديد للنظام العام وكذلك للدين - اضطر روسو للفرار، أولا إلى يفردون، في إقليم برن، ومنها إلى موتييه القريبة منها، وهي التي طرده منها أهلها لاحقا بعد أن قذفوا بيته بالحجارة. ورغم أنه كان في البداية متطلعا إلى أن يعيد إليه أبناء بلده، في بياناتهم دفاعا عنه، مكانته بينهم، اكتشف روسو أن أنصار الحكومة أو «السلبيين» أقوى في معارضتهم من هؤلاء «الممثلين»، وسرعان ما خاب أمله في أي استرداد سياسي لحقوق مواطنته، فتخلى عنها بنفسه. وفي سبتمبر 1763 عندما جمعت الإدانات الموجهة ضده في عمل خطه المدعي العام في جنيف جون-روبرت ترونشان بعنوان «رسائل من الريف»، سعى روسو وحسب لإبراء ذمته والدفاع عن نفسه في رده العام التالي من خلال عمله «رسائل من الجبل». وبما أن المذهب البروتستانتي كان متسامحا مبدئيا، وشأنه شأن الدين المدني الذي دعا إليه روسو في «العقد الاجتماعي»، كان حاسما وحسب في إدانته للتعصب، تساءل روسو كيف يمكن للمجلس الصغير لدولة بروتستانتية أن يتبنى الوحشية الاضطهادية للقديس بولس والصرامة القضائية لمحاكم التفتيش؟ (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث) وبعد أن عرض روسو ببعض الإسهاب لتاريخ اجتماعات المجلس العام الذي كان بمثابة «الخلاص للجمهورية» عندما هددتها المجاعة والطغاة والحروب (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث)، أدان، بدافع الإخلاص الوطني، درجة الانحطاط التي وصل إليها الكيان السياسي الذي اعتبره مثالا نموذجيا لأوروبا كلها، ونموذجا رائعا كتب «العقد الاجتماعي» للحفاظ عليه. بالطبع، كما أوضح روسو بنفسه من قبل ، من المستحيل الحيلولة دون حدوث التفكك السياسي لأي نظام حكم. فقد غيرت حكومة جنيف، بواسطة «التطور الطبيعي»، من شكلها حيث «تحولت تدريجيا من حكم الأكثرية إلى الأقلية»، بحسب تعليق روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث)، وكأنه يتنبأ بالقانون الحديدي لحكم الأقلية الذي وضعه روبرت ميشيلس مع تقديم مثال محدد عليه. وانتهى روسو إلى أنه «ما من شيء أكثر حرية من دولتك الشرعية؛ وما من شيء أكثر خضوعا من دولتك على حالتها الفعلية» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث).
لاقت تلك الردود المعبرة عن الإيمان الصادق لمواطن مخلص ثناء وتأييدا في ربوع كثيرة بجنيف وفي بقاع أخرى، وأصبحت لاحقا مصدر إلهام لهيجل في شبابه وغيره من عشاق الحرية المؤمنة بالمثل بإله غير غامض يتجلى في الطبيعة. لكنها لم تكن لتقرب روسو من السلطات المهيمنة في عصره، واعتبر رئيس أساقفة باريس والمجلس الصغير لجنيف عن حق «إميل» و«العقد الاجتماعي» تهديدا لكل أشكال السلطة القائمة. لقد كانت جميع الكنائس في العالم المسيحي هي التي تحول دون روسو والرب، وكانت كل حكومات الدول الحديثة تحول بين الشعب ونفسه باعتباره صاحب السيادة. لقد كان الاستبدال المؤسسي لكل من الإرادة الفردية والعمل الجمعي بقوى حرمت الناس من هويتهم الروحية والمدنية الكارثة الأخلاقية الكبرى التي حاقت بالحضارة المعاصرة، بحسب فرض روسو؛ وذلك لأن حرية الضمير تقتضي ربا لا توجد وساطة بينه وبين العبد بقدر ما تقتضي الحرية التشريعية للمجلس النيابي صاحب سيادة غير ممثل. وقد جعل علم اللاهوت الظلامي والسلطة الاستبدادية معا الناس يعولون على إرادة الآخرين؛ ولذلك كان ممثلو تلك القوى، انطلاقا من إدراكهم في ضوء فلسفته بأن دعوات روسو للحرية تمثل تحديا لهم، الأكثر حرصا على قمع تلك الدعوات.
وللتغلب على الاعتماد على الآخرين وتحقيق الاعتماد الذاتي، رسم روسو خريطة برنامج تربوي في «إميل» غايته الأساسية تحرير الأطفال من استبداد توقعات الكبار، بحيث تتطور قدراتهم وملكاتهم دون قيد، وفي الوقت المناسب لها. وفي بداية الكتاب الأول من هذا العمل، ميز روسو بين ثلاثة أنواع من التربية بحسب مصادرها المختلفة؛ ألا وهي تربية الطبيعة والأشياء والناس. ذكر روسو أن الشخص الذي تتلاقى فيه وحسب أشكال التربية هذه كلها يمكن أن ينشأ تنشئة رشيدة، لكنه لاحظ لاحقا كم سيكون هذا النوع من التربية الشاملة صعبا بما أن الإنسان الطبيعي يعيش بالكامل من أجل نفسه، بينما الإنسان المتمدن الذي يعيش من أجل المجتمع ككل يجب أن تغير طبيعته، وتستحيل هويته المستقلة إلى شكل من أشكال الوجود النسبي؛ مما يجعله جزءا من كل أكبر. ولكن، إذا أمكن إعادة دمج تربية الطبيعة أو الفطرة بشكل ما مع التربية المدنية، بحسب اقتراح روسو، فيمكن حينئذ التخلص من التناقضات الموجودة في الإنسان، وهي التي ستزال معها عقبة كبرى تحول دون سعادة البشرية (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). افترض بعض مفسري أعمال روسو أن محاولة إعادة الجمع هذه هي الغرض الأساسي من عمله «إميل» الذي يمكن وفقا لذلك أن يقرأ على اعتبار أنه دليل إرشادي لنمو الأطفال باتجاه المواطنة، المرسومة ملامح مسئولياتها باختصار في هذا النص، والمبينة تفصيلا في «العقد الاجتماعي». لكن الجزء القصير المخصص في «إميل» لموضوع السياسة، الذي امتد لحوالي 20 صفحة وذلك قرب نهاية الكتاب الخامس (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)، ليس من الواضح أن روسو أراد به تتويج الخطة المفصلة بدقة للتنشئة الطبيعية في سياق تربية راقية تأهيلا للحياة العامة. ورغم أنه يعرض أفكارا بعينها ذكرت في «خطاب عن اللامساواة» و«العقد الاجتماعي»، فإنه يفعل ذلك برسم مسار للدراسة سيسلكه إميل (الشخصية الرئيسية في عمله) لاحقا بدلا من وضع الأبعاد الكاملة للتربية السياسية الذي كان لا يزال غير مؤهل لها، وأقر المعلم بأنه لن يتفاجأ إذا اشتكى تلميذه من أنه بنى صرحه من الخشب لا من الرجال (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). إن جانبا كبيرا من هيكل رواية «إميل» المتشعب، وربما أيضا محتوياتها الكثيرة، بما في ذلك الجزء الملتبس نوعا ما الذي يتحدث عن السياسة، ربما يرجع إلى خوف روسو، بعد فترة من المرض في أواخر خمسينيات القرن الثامن عشر، من أن يكون هذا هو عمله الكبير الأخير. وعندما شرع بعد النشر في كتابة تتمة لهذا العمل، التي نشرت بعد وفاته تحت عنوان «إميل وصوفي، أو الوحيدان» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع)، صور روسو إميل لا كمواطن منغمس في الشئون العامة، بل كرجل راشد يراسل معلمه يائسا قائلا إن عالمه قد انهار، وإن زوجته هجرته، وإن تربيته ثبت أنها لا تضارع عيوبه البشرية.
अज्ञात पृष्ठ