والملاحظ في هذا العرض الموجز لطبيعة المأساة في روميو وجوليت أن مصدر الخلاف ينبع من التردد بين إرجاع سبب المأساة إلى القدر وبين إرجاعه إلى الإرادة البشرية، أي إن النقد هنا انحرف عن التركيز على المسرحية الشعرية، وانصب على مفهومات ميتافيزيقية لا بد أن يعجب لها الإنسان، خصوصا ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين، ولن تجدي المفهومات الميتافيزيقية في تفسير جاذبية هذا النص الشعري وافتتان القراء ورواد المسرح به على مدى قرون طويلة، ولكن هذا الخلط الذي يتهم النقاد به شيكسبير - أي الخلط بين مفهومي القدر والإرادة الحرة - ليس في الحقيقة خلطا على الإطلاق، فنحن نواجه تفاعلا بين المفهومين باعتبارهما قوتين متصارعتين ومتحدتين في الوقت نفسه. وربما كان ج. بلاكمور إيفانز على حق في أن شيكسبير يقابل بين القوتين في المسرحية ابتغاء تعميق المفارقة الدرامية، أي إنه يقابل بينهما بدلا من أن يصهرهما في بوتقة واحدة كما يفعل في مسرحياته المأسوية الناضجة، وربما كان على حق فعلا في أن هذه سمة من سمات الافتقار إلى النضج والخبرة في بداية حياته، ولكن لا بد من التسليم بأن المسرحية ناجحة بسبب ما يسميه النقاد بالخلط بين المفهومين وليس برغم هذا الخلط! (طبعة كيمبريدج الجديدة، 1984م) (ص16).
7
ويجمل بنا، قبل أن ندعو القارئ إلى قراءة هذا النص الشعري، أن نذكر بإيجاز بعض أحكام النقاد على خصائصه الشعرية وعلاقتها بالمسرحية باعتبارها كيانا دراميا، فنحن دائما ما نشير إلى المتناقضات باعتبارها من عناصر الدراما، ولكنها هنا تكتسي مادة الشعر. فالحب يزدهر في إطار الكراهية المتوارثة كأنما هو نبت بري لا علاقة له بالجو الذي ينمو فيه أو بالتربة التي يخرج منها، وكأنما هو طاقة روحية تتحدى الأوضاع الاجتماعية التي تحيط به، وتتناقض تناقضا صارخا مع ما استقر في الأذهان والصدور؛ ولذلك فإن «مادة» المسرحية لا تتشكل فقط من الثيمة الرئيسية بل أيضا من الثيمات الفرعية التي تشترك معها في إخراج نسيج يستند إلى عنصرين أساسيين هما عنصر الضوء والظل أو عنصر النور السماوي الذي يشرق في قلب العاشقين، وعنصر الظلال الأرضية التي تشكل حياة الأسرتين.
فالعاشقان يستطيعان بخيالهما أن يحلقا في أجواء غير أرضية وأن يسموا على المجتمع بكل ما يضعه من قيود على حرية القلب والذهن، أما من يمثل هذا المجتمع فهم خليط من الشخصيات التي تتراوح بين الطيش والحلم والفكاهة - شخصيات يجمع بينها الانغماس في عالم الأرض - عالم الظلال التي تتفاوت كثافتها - فالمربية ثرثارة، سليطة اللسان، تنتمي إلى الأرض فتمعن في الانتماء، وهي تتحدث دون توقف عن الحب بصورته الفطرية الساذجة فتقدم لنا الوجه الآخر لعلاقة روميو وجوليت، أما والد جوليت فهو هرم متصاب أبله، لا يستطيع أن يرى أبعد مما ترى زوجته، الغبية القاصرة ذهنا وفكرا ذات الاهتمامات التافهة، أما مركوشيو فهو مرح مهذار لا يستطيع أن يقبل الجهامة أو القتامة ولا يتوقف عن الهزل والفكاهة حتى عندما يموت. وأما تيبالت فهو ذو طبع حاد ومزاج ناري يدفعه إلى حتفه لأنه لا يستطيع أن يطلق لخياله العنان فيرى نفسه ومجتمعه من زاوية أخرى؛ ولذلك فإن الشخصية المقابلة له هي شخصية «بنفوليو» العاقل المتقدم في السن (نسبيا) والذي يستطيع أن يتحكم في أفعاله وأن يصدر أحكاما متئدة على ما يدور حوله بخلاف القس لورنس الذي يدعي الحكمة ويتظاهر بالذكاء وأحكام التدبير، ثم يؤدي بخطته الفاشلة إلى كارثة مروعة (حسبما يقول البروفسور داودن) دون أن يدري.
وهذه الشخصيات تقترب جميعا من النمطية بمعنى أنها لا تتطور بل تشكل الإطار الذي تقع فيه المأساة، وأهم عنصر فيه (كما سبق أن قلنا) هو التناقض بين جو التفاهات المنزلية في منزل أسرة كابيوليت وجو الشمس، والقمر والنجوم والليل. فالضوء فيها إما باهر أو خافت، وهو يتمشى مع سرعة الحدث وحيويته بل إنه أحيانا ما يكتسب خصيصة أخرى وهي أنه «حي»، ويقول «روبرت إدموند جونز» إن ثمة «إحساسا غلابا هنا بأن الضوء كائن حي في نبضه وسرعته؛ فهو يتسم بالإشراق والنفاذ ... ويعين على الوعي والاكتشاف ويوحي بالدهشة ... شأنه شأن حركة الانفعالات داخل نفوس الشخصيات.»
وكثيرا ما يتوقف النقاد في هذه المسرحية عند خصائص شعرها الغنائي العذب؛ ولذلك فهم يقولون إنها من بواكير إنتاجه، مستدلين في هذا أولا باحتفال الشاعر بالقافية ليس فحسب في المثنيات (أي الوحدات التي تتشكل من بيتين يشتركان في قافية واحدة) بل أيضا على مدى فقرات طويلة أحيانا في صورة سداسيات مقفاة وأحيانا في صورة سوناتات ذات قواف محكمة. ومستدلين ثانيا باهتمامه بالصور الفنية من استعارات معقدة وتشبيهات بعيدة المصدر والمرمى واستخدامه إياها ولو في غير موضعها الدرامي، ومستدلين ثالثا بولوعه بالتوريات واللعب بالألفاظ في شتى أشكال المحسنات البديعية والبيانية (أحيانا في مواضع جادة من السياق الدرامي) وهذا لا شك من خصائص أسلوب شيكسبير في بداية حياته الفنية إذ كان يجد متعة كبيرة في المحسنات الأسلوبية ولو كان ذلك على حساب الموقف أو الشخصية.
ولكن الدكتور و. ه. كليمن يذهب في كتابه تطور الصور الشعرية عند شيكسبير (1959م) إلى أن مسرحية روميو وجوليت تنتمي إلى المرحلة الوسطى من مراحل تطوره لأنها تجمع بين الأسلوبين - الأسلوب المبكر الذي ساد في الملهاوات - والأسلوب الناضج الذي اتسمت به المأساوات. وهو يسوق على ذلك مثلين أولهما موقف ليس بطبيعته ملائما للصور الفنية وهو مع ذلك مفعم بها، وثانيهما موقف يحتم ظهورها وتفيض منه بالفعل بطريقة تلقائية. أما الأول فنرى فيه والد جوليت يدخل عليها حجرتها وهي تبكي؛ فإذا بلسانه ينطلق بعديد من الصور المعقدة التي لا تتفق مع هذا الموقف على الإطلاق، وأما الثاني فهو مشهد الشرفة الشهير حيث يتناجى العاشقان ويتساران ولا من منصت سوى قلب الطبيعة! وهنا نجد أن الدفء والرقة اللذين يميزان مثل هذه المشاهد يرتفعان باللغة إلى مستوى من الثراء التصويري يندر وجوده حتى في مسرحيات شيكسبير الأخرى يقول روميو:
تكلمي يا أيها الملاك الرائع الوضاء
فأنت تسطعين وسط الليل في السماء
كمرسل مجنح يطوف فوق الأرض
अज्ञात पृष्ठ