12
بيقين ووضوح يزيد عما تثبتها به معرفتنا الواضحة والمتميزة للأشياء من خلال عللها الأولى. ولم أجد فيما يعلنه الكتاب صراحة شيئا يخالف العقل أو يناقضه، ووجدت أن التعاليم التي أتى بها الأنبياء سهلة للغاية يسهل على الجميع إدراكها، وكل ما في الأمر أن هذه التعاليم قد عرضت بأسلوب شاعري واستندت إلى أقدر الحجج على حض عامة الناس على طاعة الله. وبناء على ذلك، فقد اقتنعت اقتناعا جازما بأن الكتاب يترك للعقل حريته الكاملة، وبأنه لا يشترك مع الفلسفة في شيء، بل إن لكل منهما ميدانه الخاص.
ولكي أبرهن على هذا الرأي بدقة وأوضحه إيضاحا تاما، أعرض الآن المنهج الذي يجب اتباعه في تفسير الكتاب، وأبين بوجه خاص أنه يجب استخلاص كل التعاليم الخاصة بالجوانب الروحية من الكتاب نفسه دون الالتجاء إلى ما نعرفه بالنور الفطري، ثم أنتقل إلى تحليل الأحكام المسبقة الباطلة عند العامة (الذين ما زالوا أسرى الخرافة والذين يفضلون على الخلود نفسه بقايا الزمن الغابر) التي تجعله يعبد أسفار الكتاب بدلا من أن يقدس كلام الله. بعد ذلك أبين أن الكلام الذي أوحى به الله ليس عددا معينا من الأسفار بل فكرة يسيرة من الأفكار الإلهية أوحي بها للأنبياء، وأعني بها وجوب طاعة الله بروح خالصة، وذلك بممارسة العدل والإحسان، وسأبين أن الكتاب يعلم هذه العقيدة على قدر أفهام ومعتقدات أولئك الذين اعتاد الأنبياء والحواريون تبشيرهم بكلام الله، وهو تحوط كان ضروريا من أجل ضمان إيمان الناس جميعا دون مقاومة أو تحفظ. وبعد أن أقمت على هذا النحو أسس الإيمان، أبين أن المعرفة الموحى بها لا تتناول إلا جانب الطاعة، وبذلك تتميز تميزا تاما عن المعرفة الطبيعية من حيث موضوعها ومن حيث مبادئها ووسائلها. ولما كانت هاتان المعرفتان لا تشتركان في شيء، فلكل منهما أن تعمل في ميدانها دون أدنى تعارض ودون أن تخضع إحداهما للأخرى. ولما كان الناس مختلفين في تكوينهم الذهني فيؤمن أحدهم بمعتقدات لا يؤمن بها الآخر، ويحترم أحدهم ما يثير ضحك الآخر، فقد انتهيت بالضرورة إلى أنه ينبغي أن تترك لكل فرد حرية الحكم وحقه في تفسير الإيمان كما يفهمه، وأن تكون الأعمال وحدها مقياس إيمان كل فرد باتفاقها أو اختلافها مع التقوى. وهكذا، يستطيع الجميع إطاعة الله بحرية ورضى ولا يحرصون جميعا إلا على العدل والإحسان، وبعد أن بينت أن القانون الإلهي يمنح هذه الحرية لجميع الناس أنتقل إلى الشق الثاني من الموضوع، وهو أنه يمكن، بل يجب، إعطاء الحرية لجميع الناس دون أن تتعرض سلامة الدولة ويلحق بها ضرر بالغ. وللبرهنة على ذلك أبدأ بالحق الطبيعي
13
للفرد. هذا الحق ليس له من حد سوى رغبة الفرد وقدرته؛ فالحق الطبيعي لا يحتم على أي شخص أن يعيش على هوى الآخر، بل إن كل فرد هو الضامن لحريته الخاصة، كما أبين أنه لا يمكن لأحد أن يتخلى عن هذا الحق إلا من يفوض لفرد آخر قدرته على الدفاع عن نفسه، بحيث يكون صاحب الحق الطبيعي المطلق هو بالضرورة من فوض إليه الجميع قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم وحقهم في أن يحيوا كما يشاءون، وبذلك أبرهن على أن لممثلي السلطة العليا في الدولة الحق في القيام بكل ما تسمح به طاقتهم، وهم المسئولون وحدهم عن الحق وعن الحرية، وعلى الآخرين تنفيذ أوامرهم. ولكنه لما كان كل فرد لا يستطيع أن يتنازل عن قدرته في الدفاع عن نفسه إلى الحد الذي يلغي فيه وجوده كإنسان، فإني أستدل من ذلك على أنه لا يمكن لأي فرد أن يفقد حقه الطبيعي بأكمله، وعلى أن الرعايا يحتفظون بحقوق معينة هي أشبه ما تكون بامتيازات طبيعية لا يمكن أن تسلب منهم إلا بتعريض الدولة لخطر شديد؛ وعلى ذلك فإما أن يسلم لهم بهذه الحقوق ضمنا، أو باتفاق صريح مع القائمين بالحكم. وبعد الانتهاء من هذه المسائل أنتقل إلى جمهورية العبرانيين فأتحدث عنهم بالتفصيل مبينا لم أخذ الدين فيها قوة القانون، ومن هم الذين تم على يديهم ذلك، وأذكر أيضا تفصيلات أخرى تستحق أن تعرف؛ وسأبرهن في النهاية على أن ممثلي السلطة الحاكمة ليسوا هم الأمناء على القانون المدني
14
ومفسريه فحسب بل هم الأمناء أيضا على القانون المقدس ومفسروه، ولهم وحدهم الحق في التمييز بين العدل والظلم، وبين التقوى والفسوق، والنتيجة التي أنتهي إليها هي أنه، لكي تحتفظ الدولة بهذا الحق على أحسن وجه وتضمن سلامتها، يجب أن يكون كل فرد حرا في أن يفكر فيما يريد وأن يعبر عن تفكيره.
قارئي الفيلسوف! هذا هو الكتاب الذي أضعه بين يديك، وإن أهمية موضوعه وفوائده العملية؛ سواء نظر إليه في مجموعه أم في كل فصل من فصوله، لتجعلني على يقين تام من أنه لن يجد لديك قبولا سيئا. وقد كنت أود أن أضيف أشياء أخرى، ولكني لا أريد أن تطول مقدمتي وتصبح كتابا، هذا فضلا عن أنني أعتقد أن الفلاسفة يعرفون بالتفصيل أهم ما في هذا الموضوع. أما غير الفلاسفة فإني أنصحهم بألا يقرءوا رسالتي هذه لأني لا أرى سببا يجعلني آمل أن يحظى الكتاب بقبولهم. والواقع أني أعلم مدى تشبع نفوسهم بالأحكام المسبقة التي يعتنقها كثير من الناس باسم التقوى، كما أعلم أنه يستحيل تخليص النفوس العامة من الخرافة ومن الخوف، فالعناد شيمتهم، إذ لا يحكمهم العقل بل يسيرهم الانفعال في إصدار المدح أو اللوم؛ لذلك، فإني لا أدعو العامة أو من يسيرون على هوى انفعالاتهم إلى قراءة هذا الكتاب. وإنه لأفضل لي أن يتجاهلوه تماما، من أن يؤولوه تأويلا خاطئا كعادتهم دائما؛ ذلك لأنهم لن يستفيدوا منه، بل سيجدون فيه وسيلة لإيقاع الشر وللإساءة إلى بعض الفلاسفة الأحرار الذين لا يعتقدون بوجوب وضع العقل في خدمة اللاهوت، فلهؤلاء الأخيرين وحدهم أعتقد أن كتابي سيكون مفيدا.
ونظرا إلى أنه ربما لا يكون لبعض قرائي الوقت أو الرغبة في قراءة الكتاب كله، فإني أعلن في هذه المقدمة - كما سأعلن أيضا في نهاية الرسالة - أني أضع عن طيب خاطر كل ما كتبت أمام السلطات العليا
15
अज्ञात पृष्ठ