لو كان من السهل توجيه الأذهان كما توجه الألسنة لما واجهت الحكومات أية أخطار، ولسارت الرعية كما يهوى الحكام، ولما فكر أحد أو أصدر حكما، ولقامت السلطة على القهر والعنف وانتهكت حرمة القوانين، وسلبت حقوق المواطنين عندما تحاول فرض الآراء عليهم وقبولها على أنها نصيحة أو رفضها على أنها باطلة. والحقيقة أن كل فرد حر في أن يفكر وفي أن يعتقد ما يشاء، ولا يتنازل بمحض اختياره عن هذا الحق. قد يحدث لبعض الأفراد تبني أفكار غيرهم، ولكنهم سيشعرون يوما بأنهم يفضلون أفكارهم على أفكار الغير، وصحيح أيضا أن موسى استطاع استمالة الشعب لأفكاره دون مخادعة، ولكن ذلك قد تم له بصفة إلهية فضلا عن أن موسى نفسه لم يسلم من التفسيرات المعارضة له، فإذا كانت عبودية الأذهان مقبولة في النظام الملكي فكيف فيمكن قبولها في نظام ديمقراطي أي في نظام تكون السلطة فيه للشعب؟ ومهما كان للسلطة من حق على الشعب ومن تفسير للقوانين فإنها لا تستطيع أن تمنعه حقه في إصدار حكمه أو في أن يشعر بما يريد. صحيح أن السلطة تعتبر من لا يعتنق وجهة نظرها عدوا لها، ولكننا لا نبحث هنا الحد الأقصى لسلطة الحاكم، بل أفضل أنواع السلوك والأصلح منها له. صحيح أيضا أنه يستطيع الحكم بالإعدام لأتفه الأسباب، ولكن يكون حكمه معارضا للعقل. إن أسلوب القهر خطر على الدولة نفسها؛ لذلك يكون حق السلطة بمقدار قدرتها. فكل من يتنازل عن حقه في الحرية يظل سيد نفسه، وتقع الكارثة عندما تجبر السلطة أعضاء المجلس القومي على التفكير كما تشاء، ولكن الشعب لا يستطيع الصمت طويلا. تقوم السلطة على القهر والعنف عندما تسلب المواطنين حرية التفكير وتفرض عليهم آراءها، وتشعر بالنيل منها إذا ما سلمت للمواطنين بحرية القول والعمل.
إن الغرض من إقامة نظام سياسي ليس السيادة أو القهر أو إخضاع الشعب لنير فرد واحد، بل التحرر من الخوف بحيث يعيش كل فرد في سلام، أي المحافظة على الحق الطبيعي في الحياة وفي السلوك، ليس الغرض من أي نظام سياسي تحويل البشر إلى حيوانات أو آلات، بل الحصول على سلامة الذهن والبدن، أي إن غرض التنظيم في المجتمع هو الحرية.
وتنشأ السلطة في المجتمع، إما عن الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فرد واحد. ولما كان لكل فرد حكمه الخاص فإنه فوض للسلطة العليا حقه دون أن يتنازل عن حريته في التفكير وإصدار الأحكام بشرط الاعتماد على العقل لا على الحيلة والخداع، ودون أن يكون دافعه على ذلك الحقد والكراهية وإلا كان متمردا ؛ على هذا النحو، يستطيع أن يعبر عما يفكر فيه دون أن يمس سلامة الدولة وأمنها الداخلي، وعليه أن يقبل إجراءات السلطة حتى ولو كانت معارضة لآرائه الشخصية، يدفعه في ذلك إيمانه بالقيم المقدسة، فالسلطة هي القائمة على العدالة، وتصل إلى حد الاعتدال عندما تسلم بحرية الآخرين والقرارات التي تأخذها تصدر عن الجمعية العامة بالإجماع على الرغم من معارضة بعض الأعضاء.
ولكن ما الآراء التي تهدد كيان الدولة؟ إنها الآراء التي تهدد بفسخ العقد الذي فوض به المواطنون حقهم للسلطة العليا، مثل الآراء الفوضوية قولا وعملا. أما الآراء التي لا يترتب عليها نتيجة فعلية تهدد سلامة الدولة فلا تعتبر جرما إلا في دولة يترأسها متعصب أحمق يريد إرهاب الناس. وهناك بعض الآراء التي تصدر عن سوء نية طبقا لحرية الفكر، ولكن مقياس الإخلاص للسلطات هو الأعمال، وعلى رأسها الإحسان للجار. أفضل النظم السياسية هي التي تسمح للفرد بحرية التفكير، وقد اعترف له الإيمان من قبل بهذه الحرية. قد تسبب هذه الحرية بعض المتاعب للسلطات، ولكن هذه المتاعب أقل بكثير مما لو سلب المواطنون هذه الحرية. وإن وضع الإنسانية كلها تحت سيطرة القوانين يأس من العيوب لا إصلاح لها. ومن الأفضل السماح بالنشاط الحر إذا كان من الصعب منعه، وهناك الانفعالات التي لا يمكن القضاء عليها.
إن الحرية هي العامل الأساسي لتقدم العلوم والفنون، فلو حدث أن فرضت السلطة على المواطنين أفكارها، فإنها لن تستطيع أن تجعل أفكارهم مطابقة لأفكارها، وبذلك ينتهي المواطنون إلى النفاق، ويقولون ما لا يعملون، ويضيع حسن النية، ويسود الخداع والمحاباة، ويعم السقوط. كلما سلبت منهم الحرية زاد السقوط، وكلما التجئوا إلى باطنهم ليعثروا فيه على حريتهم، فاض بهم الكيل وناصبوا السلطة العداء علنا، وأثاروا القلاقل والفتن. فهذه هي الطبيعة الإنسانية، ويكون القانون هو السبب في إثارة دعاة الخير لا في كبح جماح الظالمين، ويكون تطبيق القانون أعظم خطر يهدد الدولة التي يرفضها الأحرار ويتملقها الانتهازيون، ويصعب على السلطة حينئذ التراجع عما هي فيه، وكم نشأت من الفرق والطوائف لأن السلطة أرادت وضع حد لحرية الفكر. إن القوانين تهدف إلى تهدئة المشاعر لا إلى إثارتها. أليس الأجدر إذن أن تراعى عواطف الجماهير من أن توضع لها قوانين عاجزة؟ في مثل هذه الدولة يصبح المواطنون أعداء الدولة لأنهم لا يعرفون الجبن، ويسقط الشهداء، ويلحق العار بالسلطات، فلا يرهب المواطنون الموت، ولا يطلبون العفو، ويقبلون الشهادة لغاية شريفة، ويكونون شهداء الحرية، يتبعهم بعض المواطنين في حين يصفق البعض الآخر للجلادين.
أما إذا أردنا أن نعيد للمواطنين حسن النية وأن تمارس السلطات حقها في أفضل الظروف الممكنة يجب عليها التسليم بحرية المواطنين في التفكير وفي الحكم، فتقل المتاعب، وذلك أقرب للطبيعة الإنسانية، والديمقراطية هي أقرب النظم إليها، ففيها يعمل كل فرد ويفكر دون أن يصب عمله وفكره في قالب واحد، وفيها تحظى فكرة الغالبية العظمى بموافقة الجميع مع الاحتفاظ بحق إلغائها في المستقبل لو دعت الظروف إلى ذلك، ولو وجدت هناك فكرة أصلح منها. لا تمثل إذن حرية المواطنين أي خطر على السلطة وهيبتها، فإذا سلبت هذه الحرية سقط الشهداء وظهرت الدعوة للشهادة ويصفق أصحاب السلطة وأنصارها، والمصفقون لها الذين يقومون باغتصاب السلطة بعد ذلك؛ لذلك، إذا أردنا المحافظة على سلامة الدولة يجب أن يقتصر الدين على ممارسة العدل والإحسان، كما يجب أن يقتصر عمل السلطة على توجيه أعمال المواطنين في شئون الدين والدنيا دون أن تسلبهم حريتهم في التفكير والتعبير. ويلخص سبينوزا ذلك كله في مبادئ ستة تكون الدستور الشامل وهي: (1)
يستحيل سلب الناس حرية التفكير والتعبير. (2)
لا يهدد الاعتراف بالحرية الفردية هيبة السلطة أو حقها. (3)
لا يمثل التمتع بالحرية الفردية أي خطر على سلامة الدولة. (4)
لا تهدد الحرية الإيمان بالأديان. (5)
अज्ञात पृष्ठ