كذلك يعطينا منهج التفسير اللغوي المعاني الصحيحة للألفاظ، لأنه إذا أمكن تغيير معنى النص بسهولة، فإنه لا يمكن تغيير معنى الكلمة أو اللفظ؛ لأن الكلمة يحكمها معناها الطويل، ومن يريد تغيير معناها عليه تغيير تاريخ استعمالها وهذا مستحيل، فاللغة محفوظة في تراثها عند الشعب وعند علماء اللغة، فإذا غير العلماء معنى النص، فإنهم لا يستطيعون تغيير معاني الكلمات، ومن الصعب إعطاء الكلمات معاني جديدة كلية مخالفة لمعانيها القديمة؛ لذلك لا يمكن تحريف معاني الكلمات بالرغم من جواز تحريف النصوص، وتغيير فكر الأنبياء بتغيير النص أو بإساءة التأويل.
فإذا كانت كل هذه الصعوبات اللغوية والتاريخية تمنعنا من معرفة الأشياء التي لا يمكن إدراكها، والتي يمكن تخيلها فحسب، فإنها لا تمنعنا من تصور الأشياء التي يمكننا إدراكها بالذهن. فقد كتب إقليدس أشياء سهلة في كل لغة، ولا تهم معرفة اللغة الأصلية معرفة كاملة، بل لا يهم معرفة أية لغة معرفة كاملة، ولا يهم أيضا معرفة حياته، وعاداته، وتقاليده، وظروف الكتابة، ومناسباتها، والغاية منها، وطرق جمعها، ومن تناولها. والتعاليم الخلقية في الكتاب المقدس يمكن إدراكها على هذا النحو، فإننا نفهمها بسهولة ويسر، ونعلم معاني الآيات عن يقين؛ إذ يتم التعبير عنها بأكثر الألفاظ شيوعا وبساطة، لأن الخلاص الحقيقي يكون في اطمئنان النفس، وهذا ما يمكن معرفته بوضوح.
وعلى هذا النحو لا يتطلب منهج التفسير إلا النور الفطري الذي يقتضي استنباط الأشياء الغامضة من الأشياء الواضحة، وهو منهج يسير للغاية، إلا أنه استعصى على الناس لطول نسيانهم له، وليس هناك ما يدعى «نورا فوق الطبيعة»
Lumière surnaturelle
كما يدعي البعض؛ وذلك لأن كل ما يقال عنه تفسير بنور يفوق الطبيعة إن هو إلا ابتداع إنساني محض. وإن صعوبة التفسير لا تأتي من عدم كفاية النور الفطري كما يدعون، بل من التكاسل والإهمال في المعرفة التاريخية والنقدية للكتاب. وليس هذا النور الذي يفوق الطبيعة هبة من الله للمؤمنين، فقد خاطب الأنبياء والحواريون المؤمنين والكفار على السواء؛ وعلى هذا النحو يمكن أن يقال: إن كل ما يناقض العقل أو الطبيعة يجب حذفه؛ لأنه زيادة من الراوي، لإثارة النفوس، وتحريك الخيال.
لذلك يرفض سبينوزا منهج موسى بن ميمون الذي يعتبر أن لكل نص معاني عديدة قد تكون متعارضة، ويكون أصوبها أكثرها اتفاقا مع العقل، فإذا تعارض العقل مع النقل (المعنى الحرفي) وجب تأويل النص،
51
وقد طبق ابن ميمون منهجه هذا، وانتهى إلى القول بقدم العالم، وهو رأي أرسطو، وتأويل النص المقدس حسب هذه النظرية، بل إن النص، في رأيه، يدعو لها صراحة. يرفض سبينوزا منهج ابن ميمون؛ لأنه يدل على أن هناك أشياء كثيرة في الكتاب لا يمكن استنباطها بالنور الفطري، وأنه لا بد لذلك من نور يفوق الطبيعة، أما العامة التي تجهل طرق الاستدلال والبراهين، فإنها ستحتاج إلى استفتاء الفلاسفة، والاعتقاد بعصمتهم في تفسير الكتاب، وبذلك تنشأ سلطة كهنوتية جديدة، يحترمها العامة. صحيح أن منهج سبينوزا يتطلب معرفة اللغة العبرية، ولكن يكفي أن تكون هذه المعرفة على مستوى العامة؛ فقد كانت لغة الحيث في ذلك العصر، في الوقت نفسه الذي يجهلون فيه البراهين على حقائق الوحي. يؤدي منهج ابن ميمون إلى استحالة معرفة العامة بحقائق الوحي، مع أن حقائق الوحي الخاصة بالسعادة، وبحياة الفضيلة، يمكن للناس جميعا إدراكها، وفي أي لغة كانت، دون شهادة المفسرين أو العلماء، يفترض منهج ابن ميمون اتفاق الأنبياء فيما بينهم، وكأنهم فلاسفة كبار، وهذا غير صحيح؛ لأن الأنبياء جهلوا كثيرا من الحقائق، واستعملوا أسلوب التخييل، للتأثير على النفوس، كما يفترض منهج ابن ميمون أن الكتاب لا يمكن تفسيره بالكتاب، مع أنه يجب تفسير الكتاب بالكتاب نفسه. وأخيرا يسمح منهج ابن ميمون بتفسير النصوص حسب آرائنا السابقة، وبتبديل المعاني الحرفية للنصوص، مع أن كثيرا من النصوص تند عن العقل، وينتهي منهج ابن ميمون إلى زعزعة ثقة العامة في الوحي، وفي إيمانهم بالكتاب.
لا يمكن إذن، في رأي سبينوزا ، إخضاع النص لشيء آخر غيره، مثل فلسفة أفلاطون، أو أرسطو أو تأويله تأويلا مجازيا، حتى يتفق مع العقل، أو إخراج ما فيه من أسرار إلهية مدعاة، هي مجرد أوهام وخيالات، أو خرافات وأساطير.
سادسا: النبوة
अज्ञात पृष्ठ