الفصل السادس
المعجزات
مثلما يسمى العلم الذي يتعدى حدود فهم الإنسان إلهيا، اعتاد الناس تسمية العمل الذي يجهل العامة سببه عملا إلهيا، أي عمل الله، فالعامة يظنون أن قدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صورة ممكنة إذا حدث في الطبيعة - على ما يبدو - شيء خارق للعادة، مناقض لما اعتاد العامة أن يتصوروه، وخاصة إذا كان هذا الحادث بالنسبة لهم فرصة كسب أو مغنم، وهم يعتقدون أن أوضح برهان على وجود الله هو الخروج الظاهر على نظام الطبيعة؛ لذلك يبدو في نظرهم من يفسر الأشياء والمعجزات بالعلل الطبيعية - أو من يبذل جهده من أجل معرفتها بوضوح - يبدو كأنه قد ألغى الله، أو على الأقل قد أسقط العناية الإلهية. وبعبارة أخرى، يظن العامة أن الله لا يفعل في الطبيعة ما دامت تسير على نظامها المعتاد، وبالعكس تبطل فاعلية الطبيعة وعللها الطبيعية عندما يفعل الله؛ وعلى ذلك فهم يتخيلون قدرتين متميزتين كلا من الأخرى من حيث العدد: قدرة الله وقدرة الأشياء الطبيعية. وإن كانت هذه الأخيرة مع ذلك تخضع على نحو ما لتحكم الله أو مخلوقة بوساطته (كما يفضل أكثر الناس الاعتقاد الآن). أما المقصود بهذه القدرة أو تلك، والمقصود بالله فلا يعرفون شيئا سوى أنهم يتخيلون قدرة الله كقدرة الملك المعظم، وقدرة الطبيعة كقوة غاشمة. يسمي العامة إذن حوادث الطبيعة الخارقة للعادة معجزات أو أعمال الله، وهم يفضلون أن يجهلوا العلل الطبيعية للأشياء، ولا يودون إلا الحديث عما يجهلونه تمام الجهل، وبالتالي عما يعجبون به أشد الإعجاب، وذلك إما بدافع الخشوع وإما رغبة في الاحتجاج على من يعكفون على علوم الطبيعة؛ وهذا يرجع إلى أنه ليس هناك في نظرهم ما يدعو إلى عبادة الله وإرجاع كل شيء إلى قدرته وإرادته، إلا بقدر إلغائنا للعلل الطبيعية وتصورنا لأشياء تعلو على نظام الطبيعة. ولا تبدو لهم قدرة الله أحق ما تكون بالإعجاب إلا إذا تصوروا قدرة الطبيعة وكأنها مقهورة على يد الله. ويبدو أن أصل هذا الرأي يرجع إلى اليهود القدماء، فقد قص هؤلاء اليهود معجزاتهم، وحاولوا أن يبينوا بذلك أيضا أن الطبيعة كلها مسيرة لمصلحتهم وحدهم بأمر من الإله الذي يعبدونه، وذلك حتى يقنعوا المعاصرين لهم، من غير اليهود، الذين كانوا يعبدون آلهة منظورة كالشمس والنور والأرض والماء والهواء ... إلخ، وحتى يبينوا لهم ضعف هذه الآلهة وتقلبها، أي تغيرها وخضوعها لإله غير منظور. وقد سر الناس بذلك إلى حد أنهم ما زالوا حتى اليوم يصطنعون معجزات بخيالهم حتى يعتقد الآخرون أن الله قد فضلهم على الآخرين، وأنهم هم العلة الغائية التي لأجلها خلق الله الأشياء جميعا وما زال يسيرها. فما أكثر ادعاءات الجهل الإنساني، وما أبعده عن كل فكرة صحيحة عن الله والطبيعة، عندما يخلط بين أوامر الله وأوامر البشر، ويتخيل الطبيعة محدودة إلى درجة أنه يتوهم أن الإنسان هو الجزء الرئيس فيها! حسبنا عن أفكار العامة وأحكامهم المشتقة عن الطبيعة والمعجزات. ومع ذلك، فلكي أسير في هذه المسألة بالترتيب، سأبين النقاط الآتية: (1)
لا يحدث شيء يناقض الطبيعة، فالطبيعة تحتفظ بنظام أزلي لا يتغير وسأبين في الوقت نفسه ماذا ينبغي أن يعني لفظ «معجزة». (2)
لا نستطيع أن نعرف بالمعجزات ماهية الله أو وجوده، ومن ثم لا نستطيع أن نعرف العناية الإلهية، على حين أننا نستطيع أن نعرفها كلها بطريقة أفضل بكثير عن طريق قانون الطبيعة الثابت الذي لا يتغير. (3)
سأبين أيضا اعتمادا على بعض الأمثلة المستمدة من الكتاب أن الكتاب نفسه لا يعني بأمر الله وبمشيئته، ومن ثم بالعناية الإلهية، إلا نظام الطبيعة ذاته، بوصفه نتيجة ضرورية للقوانين الأزلية. (4)
سأتناول أخيرا الطريقة التي ينبغي بها تفسير معجزات الكتاب وما يجب ملاحظته أساسا على الروايات الخاصة بالمعجزات.
هذه هي الموضوعات الأساسية التي تدخل في هذا الفصل، وهي موضوعات أعتقد أنها في غاية الأهمية بالنسبة لهدف هذا الكتاب كله.
فيما يتعلق بالموضوع الأول نستطيع بسهولة أن نتبين حقيقته عن طريق المبدأ الذي أثبتناه في الفصل الرابع عن القانون الإلهي، وهو أن كل ما يشاؤه الله أو يحدده يتضمن ضرورة وحقيقة أزليتين. والواقع أننا قد استنتجنا من عدم تميز ذهن الله عن إرادته، أنه لا فرق بين قولنا إن الله يريد شيئا ما، وقولنا إنه يتصور شيئا ما؛ فإن الضرورة نفسها التي تجعل الله وفقا لطبيعته وكماله يتصور شيئا على ما هو عليه، تجعله أيضا يريده على ما هو عليه. وإذن فلما كان أي شيء لا يكون حقيقيا، بالضرورة، إلا بأمر الله، يترتب على ذلك بوضوح تام أن القوانين العامة للطبيعة ليست إلا مجرد أوامر إلهية تصدر عن ضرورة الطبيعة الإلهية وكمالها. وإذن، فلو حدث شيء في الطبيعة يناقض قوانينها العامة، كان هذا الشيء مناقضا أيضا لأمر الله وعقله وطبيعته،
1
अज्ञात पृष्ठ