ثم قال بتلك النبرة المتبرمة التي لم يكن يقصد بها أن يكون متبرما: «ذلك إذن السبب في عدم عودته. يا له من مسكين! مسكين ذلك الفتى.» «أكنت قد اتفقت معه على مقابلته مجددا؟» «أجل. وجدت أنه جذاب وذكي جدا. كان قد صار مهووسا بالصحراء! لكن لعلك تعرف ذلك. كانت لديه أفكار عن الاستكشاف. ما زال يوجد قلة من الشباب ممن لديهم مثل هذه الأفكار. ما زال يوجد مغامرون، حتى في هذا العالم المسيج المزخرف. وهو أمر لا بد أن يكون المرء مسرورا به. ماذا حل بكينريك؟ حادث سيارة؟» «لا. سقط على متن قطار وكسرت جمجمته.» «يا له من بائس مسكين! يا له من بائس مسكين! يا للخسارة! كان يمكن أن أمد الآلهة الغيورة مكانه بدزينة أخرى من الأشخاص الذين يمكن الاستغناء عنهم. يا لها من كلمة فظيعة؛ يمكن الاستغناء عنهم. التعبير عن فكرة ما كانت حتى ستكون قابلة للاستيعاب قبل بضع سنوات. لقد قطعنا شوطا طويلا في الدرب نحو همجيتنا المطلقة. لماذا تريد أن تعرف إن كان كينريك قد أتى لزيارتي؟» «أردنا أن نقتفي أثره. حين مات كان متخفيا تحت اسم شارل مارتن، وكان معه مجموعة كاملة من أوراق ثبوتية باسم شارل مارتن. نريد أن نعرف في أي مرحلة بدأ يكون شارل مارتن. ولأن الصحراء كانت قد صارت هوسا لديه، كنا شبه واثقين من أنه سيأتي ليلتقي ببعض الخبراء في الموضوع في لندن، وبما أنك، يا سيدي، أشهرهم فقد بدأنا بك.» «فهمت. حسنا، من المؤكد أنه أتى لمقابلتي باسم كينريك، بيل كينريك بحسب ما أظن. شاب ذو بشرة داكنة، جذاب جدا. كما كان صلبا، على نحو لطيف. أقصد أن خصاله الحميدة كانت تخفي إمكانات غير معلومة. وجدته مرحا مبهجا.» «هل جاءك بخطط بعينها؟ أقصد، هل أتاك باقتراح محدد؟»
ابتسم لويد قليلا. ثم قال: «لقد جاءني بأحد أكثر الاقتراحات شيوعا من بين ما يعرض علي في العادة. حملة استكشافية إلى موقع مدينة عبار. أتعرف مدينة عبار؟ إنها مدينة شبه الجزيرة العربية الأسطورية. إنها تمثل «مدائن السهول» في شبه الجزيرة العربية. يا لتكرار هذا النمط في الأسطورة! إن الجنس البشري يشعر بذنب أبدي حين يشعر بالسعادة. لا يمكننا حتى أن نعلق على صحتنا الجيدة من دون أن نلمس الخشب أو نجعل أصابعنا متقاطعة أو أي طريقة أخرى تمنع غضب الآلهة من رفاهة البشر الفانين. وهكذا لدى العرب مدينة عبار؛ المدينة التي دمرتها النار بسبب ثرائها وآثامها.» «وقد ظن كينريك أنه اكتشف موقعها.» «كان واثقا من أنه اكتشف موقعها. يا للفتى المسكين، أتمنى أنني لم أكن عصبي المزاج معه.» «أتظن إذن أنه كان مخطئا؟» «يا سيد جرانت، أسطورة عبار موجودة في كل مكان من البحر الأحمر عبر شبه الجزيرة العربية حتى الخليج الفارسي، وتقريبا في كل ميل من تلك المسافة يوجد موقع مزعوم مختلف لهذه المدينة.» «ولا تعتقد أن أحدا ما يمكن أن يعثر عليه مصادفة؟» «مصادفة؟» «كان كينريك طيارا. من المحتمل أن يكون قد رأى المكان حين جرفته الريح بعيدا عن مساره، أليس كذلك؟» «هل تحدث إلى صديقه عن الأمر إذن؟» «لا. لم يتحدث إلى أي أحد أعرفه. كان ذلك استنتاجا من جانبي. ما الذي يمنع أن يجري الاكتشاف بتلك الطريقة؟» «لا شيء، بالطبع، لا شيء؛ إن كان المكان موجودا من الأساس. لقد قلت إنها أسطورة تكاد تكون منتشرة في العالم أجمع. لكن حين تتبع الناس القصص عن الأطلال وصولا إلى مصادرها، كان يتبين دائما أن تلك «الأطلال» شيء آخر. تشكل طبيعي للصخور، أو سراب، أو حتى تشكيلات للسحب. أظن أن ما رآه كينريك المسكين كان فوهة نيزك. لقد رأيت ذلك المكان بنفسي. اكتشفه أحد أسلافي حين كان يبحث عن عبار. بشكل لا يصدق يبدو المكان هناك وكأنه من صنع بشر. فالأرض المنقوضة التي تشكلت جراء سقوط النيزك لها قمم ومرتفعات مدببة تبدو خربة. أظن أن لدي صورة له في مكان ما. ربما ترغب في إلقاء نظرة عليها؛ إنها صورة مميزة.» ثم نهض وسحب للخلف لوحا في الجدار الخشبي المطلي العاري، فظهرت رفوف من الكتب تمتد من الأرض وحتى السقف. تابع يقول: «ربما من رحمة الرب بنا أن النيازك بأحجامها المختلفة لا تسقط على الأرض كل يوم.»
التقط مجموعة صور فوتوغرافية من الأرفف التحتية، وعاد يسير عبر الغرفة وهو يبحث عن المكان في مجموعة الصور. ومن دون سابق إنذار، تملك جرانت إحساس بأنه التقى لويد في مكان ما من قبل.
نظر إلى الصورة التي وضعها لويد أمامه. كانت تبدو غريبة بلا شك. كانت تبدو مثل محاكاة فنية ساخرة لمنجز بشري عظيم. لكن ذهنه كان مشغولا باللحظة الغريبة تلك التي شعر فيها بأنه تعرف على لويد.
أكان الأمر فحسب أنه رأى صورة هيرون لويد في مكان ما؟ لكن لو كان الأمر كذلك، لو كان مجرد أنه كان قد رأى وجه لويد كملحق لوصف ما لرحلاته الاستكشافية، فإن هذا الشعور بأنه تعرف عليه كان سيأتيه عندما دخل الغرفة لأول مرة ورآه. لم يكن الإحساس الذي اعترى جرانت هو إحساسا بالتعرف بقدر ما كان إحساسا بأنه يعرف لويد من مكان آخر. في ظروف محيطة أخرى.
كان لويد يقول: «أترى؟ حتى على الأرض، يتعين على المرء أن يقترب منها قبل أن يتأكد من أن الأمر ليس من صنع البشر. فلا بد أن الأمر أكثر تضليلا من الجو.»
وافقه جرانت قائلا: «أجل»، لكنه لم يصدقه. وذلك لسبب وجيه جدا. من الجو كانت الفوهة ستبدو واضحة تماما. من الجو كانت ستبدو على حقيقتها تماما؛ هالة دائرية تحيط بها أرض منقوضة. لكنه لم يكن سيخبر لويد بذلك. فليدع لويد يتحدث. كان اهتمامه بلويد يتزايد. «ذلك المكان يقع على مقربة شديدة من مسار كينريك عبر الصحراء، كما وصفه هو، وأظن أن ذلك ما رآه.» «أتعرف إن كان قد حدد المكان بدقة؟» «لا أعرف ذلك. لم أسأله. لكنني أظن أنه فعل. الانطباع الذي كونته عنه أنه شاب في غاية الذكاء والكفاءة.» «لم تسأله عن تفاصيل؟» «سيد جرانت، لو أخبرك أحدهم أنه اكتشف شجرة مقدسة تنمو في وسط بيكاديلي في مواجهة نادي إن آند أوت مباشرة، فهل كنت ستبدي اهتماما؟ أم كنت ستظن فحسب أن عليك أن تتحلى بالصبر معه؟ إنني أعرف الربع الخالي مثلما تعرف أنت بيكاديلي.» «أجل، بالطبع. إذن لم تكن أنت من ودعه في المحطة؟» «سيد جرانت، أنا لا أودع «أي أحد» مطلقا. فالوداع هو خليط من المازوخية والسادية لطالما شعرت تجاهه بالأسى. ودعته إلى أين، بالمناسبة؟» «إلى سكون.» «إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية؟ فهمت أنه كان يتوق إلى بعض المرح. لماذا كان ذاهبا إلى هناك؟» «لا نعرف. هذا أحد الأشياء التي نحن في غاية التشوق لمعرفتها. لم يقل لك شيئا يمكن أن يرشدنا إلى دليل؟» «لا. لقد أشار إلى العثور على شخص آخر يدعمه. أقصد، حين تبين له أنني لست بالعون المطلوب. ربما وجد شخصا آخر يدعمه، أو كان يأمل أن يجده، وذلك الشخص يعيش هناك. لا يمكنني أن أتذكر أحدا الآن. يوجد كينزي-هيويت، بالطبع. لديه صلات في اسكتلندا. لكنني أظن أنه في شبه الجزيرة العربية في الوقت الراهن.»
في الواقع، على الأقل، قدم لويد أول تفسير منطقي للزيارة السريعة للشمال التي أخذ فيها كينريك حقيبة سفر صغيرة. لكي يتحدث إلى أحد الداعمين المحتملين. لقد وجد داعما له في اللحظة الأخيرة، تقريبا في نفس الوقت الذي كان من المقرر فيه أن يقابل تاد كولين في باريس، فانطلق شمالا للقائه. كان ذلك التفسير مناسبا جدا. كانوا يحرزون تقدما. لكن لماذا كان ذاهبا بصفته شارل مارتن؟
وكأن الفكرة قد انتقلت، إذ قال لويد: «بالمناسبة، إن كان كينريك يسافر تحت اسم شارل مارتن، فكيف تعرفوا عليه باسم كينريك؟» «لقد سافرت على متن ذلك القطار إلى سكون. ورأيته حين كان ميتا، واسترعى انتباهي عدة أبيات شعرية كان قد كتبها.» «كتبها؟ على ماذا؟»
فقال جرانت، وهو يتساءل ماذا يهم لويد فيما كان كينريك يكتب عليه: «على مساحة فارغة من صحيفة مسائية.» «أوه.» «كنت في إجازة، ولم يكن لدي شيء آخر أفعله؛ لذا سليت نفسي بالأدلة التي قدمت.» «لعبت دور المحقق.» «أجل.» «ما هي مهنتك يا سيد جرانت؟» «أنا موظف حكومي.» «آه، كنت على وشك أن أقترح أنك في الجيش.» ثم ابتسم قليلا وأمسك بكوب جرانت ليعيد ملأه. وأضاف: «برتبة عالية بالطبع.» «ضابط أركان عامة من الدرجة الأولى؟» «لا. ملحق دبلوماسي، على ما أظن. أو في المخابرات.» «لقد عملت قليلا في المخابرات أثناء عملي بالجيش.» «إذن فقد اكتسبت هناك ولعك بهذه الأمور. أو ميلك، إن جاز لي التعبير.» «شكرا لك.» «لم تكن موهبة عادية تلك التي تعرفت بها على أن شارل مارتن هو بيل كينريك. أم إنه كان يحمل أمتعة تخص كينريك مما جعل أمر التعرف على شخصيته ميسورا.» «لا. بل دفن على أنه شارل مارتن.»
अज्ञात पृष्ठ