أخذ يتعثر في سيره وهو يصعد الدرج ويعبر الجسر. بدا صوت الخشب تحت أقدامه كصوت قرع الطبول ومجوفا، وراحت دفقات كبيرة من البخار تتصاعد حوله من أسفل، وأخذت أصوات الضوضاء تتردد وتتكرر آتية من القنطرة المظلمة المتاخمة له. فكر قائلا في نفسه إن الناس مخطئون بشأن الجحيم. ليس الجحيم مكانا لطيفا دافئا يشوى فيه المرء. الجحيم كهف بارد كبير يتردد فيه صدى الأصوات وليس فيه مستقبل ولا ماض؛ مكان منعزل مظلم تتردد فيه الأصداء. الجحيم خلاصة مركزة من صباح شتوي بعد ليلة مؤرقة من كره الذات.
خرج إلى الساحة الخالية من الناس، وسكن الهدوء المفاجئ من روعه. كانت الظلمة باردة لكنها صافية. وأنبأت مسحة رمادية في تلك الظلمة بقدوم الصبح، وباحت نسمة ثلجية في صفائها ب «القمم العالية». بعد برهة، حين يظهر ضوء النهار، سيأتي تومي إلى الفندق ويأخذه، وسيمضيان بالسيارة إلى ريف منطقة المرتفعات الاسكتلندية الصافي الرحيب، بعيدا في عالم المرتفعات الريفي الشاسع المستقر القنوع، حيث لا يموت الناس إلا في أسرتهم، ولا يكلف أحد نفسه عناء أن يغلق بابه لأن في ذلك مشقة كبيرة للغاية.
في غرفة الطعام في الفندق كانت المصابيح مضاءة في أحد طرفيها فقط، وفي ظلمة المساحات غير المضاءة كانت توجد صفوف من طاولات بلا مفارش يعلوها قماش جوخ. خطر على باله حينئذ أنه لم يسبق له من قبل أن رأى طاولات بلا مفارش. كانت حقا أشياء رثة متواضعة للغاية مجردة من دروعها البيضاء. مثل ندل من دون الجزء الأمامي من قمصانهم.
أطلت طفلة، ترتدي زي عمل عبارة عن فستان أسود ومعطفا صوفيا أخضر مطرزا بالورد، برأسها من خلف ستارة، وبدا أنها ذهلت حين رأته. سألها عن طعام الإفطار الذي يمكن تقديمه. فأخذت إبريقا زجاجيا من خزانة جانبية ووضعته على القماش أمامه بمظهر يوحي بأنها على وشك أن تبدأ عرضا مسرحيا.
قالت بلطف: «سأرسل ماري إليك»، واختفت خلف الستارة.
قال جرانت في نفسه إن الخدمة قد فقدت رسمياتها ورونقها. لقد أصبحت ما تطلق عليه ربات البيوت خشنة جافة. لكن بين الحين والآخر كان الوعد بإرسال ماري يعوض عن القمصان المطرزة والمآخذ المماثلة .
كانت ماري مخلوقا سمينا هادئا، ولا شك في أنها كانت ستصبح مربية أطفال لو لم يكن أمر مربيات الأطفال صيحة عفى عليها الزمن، وأثناء خدمتها له شعر جرانت بنفسه يسترخي مثل طفل في حضور شخص خير. قال، محدثا نفسه بمرارة، إن وضعه قد صار مزريا عندما يكون في حاجة ماسة إلى الطمأنينة لدرجة أن نادلة فندق سمينة تستطيع أن تقدمها له.
لكنه تناول ما وضعته ماري أمامه من طعام وبدأ يشعر بالتحسن. وبعد قليل عادت النادلة، ورفعت من أمامه شرائح الخبز، ووضعت مكانها طبقا من خبز الصباح الملفوف.
وقالت: «إليك بالخبز الملفوف.» وتابعت: «لقد وصل لتوه. إنه هزيل هذه الأيام. فليس فيه أي حشو على الإطلاق. لكنه أفضل من ذلك الخبز.»
دفعت المربى لتقربها أكثر من يده، ونظرت لترى إن كان في حاجة للمزيد من الحليب، وغادرت مرة أخرى. أما جرانت، الذي لم يكن لديه نية لتناول المزيد من الطعام، فوضع الزبد على واحد من الخبز الملفوف ومد يده ليلتقط واحدة من الصحف غير المقروءة من الليلة الماضية. ما خرج في يده كان صحيفة مسائية لندنية، فراح ينظر إليها بعدم تمييز متسم بالحيرة. هل اشترى صحيفة مسائية؟ لقد قرأ الصحيفة المسائية بالطبع في الوقت المعتاد، وهو في الرابعة من بعد الظهر. فلماذا يشتري صحيفة أخرى في الساعة السابعة مساء؟ هل أصبح شراء الصحيفة المسائية فعلا لا إراديا؛ تلقائيا كتفريش المرء لأسنانه؟ كشك كتب مضاء؛ إذن تشتري الصحيفة المسائية. أكانت تلك هي الطريقة التي جرى بها الأمر؟
अज्ञात पृष्ठ