في إحدى المرات، أثناء سفري إلى اسكتلندا ليلا، ظللت مستيقظا لأكتب بعض الخطابات وأرسلها إلى مدينة كرو حين يصل القطار إلى محطته الأولى. فكرت حينها، بينما كنت جالسا أنظر إلى الرصيف بعد أن تخلصت من خطاباتي، أنه من السهل للغاية أن أغادر القطار من دون أن يلاحظ أحد ذلك. كان المضيف قد نزل من القطار ليستقبل ركابا متأخرين، ثم ذهب بعدها ليقضي أمورا تخصه. كان الانتظار طويلا على ذلك الرصيف المهجور الهادئ، بينما كان يجري تحميل الأمتعة في العربات البعيدة. إن كنت قد تمكنت من السفر دون أن يتعرف علي أحد كل هذه المسافة، فيمكنني أن أغادر القطار دون أن يعرف أحد أبدا أنني كنت على متنه.
كانت تلك الخاطرة هي أولى ركيزتين لإلهام خطتي.
أما الثانية فكانت وجود أوراق شارل مارتن في حوزتي.
كان شارل مارتن هو الميكانيكي الخاص بي. كان الأوروبي الوحيد والفني الوحيد (يا لها من كلمة باعثة على الأسى بحق!) الذي عينته. استخدمته في أقل حملاتي الاستكشافية نجاحا، الحملة التي كانت شبه ميكانيكية؛ لأن العرب الذين كانوا يعملون معي لم يكونوا مهرة في التعامل مع الآلات (رغم أنهم كانوا يتعلمون بسرعة، مع الأسف!). كان مخلوقا منفرا، ولم يكن يهمه شيء سوى الاحتراق الداخلي للمحركات وتجنب أداء حصته من مهام المخيم، ولم أكن أشعر بالأسف حياله حين مات وسط الصحراء. بحلول ذلك الوقت كنا قد اكتشفنا أن المركبات كانت تمثل عبئا وليس عونا، وكنا قد قررنا التخلي عنها، وهكذا كان مارتن قد عاش أكثر مما يرجى منه من منفعة. (لا، لم يكن لي يد في موته؛ فهذه المرة تخلص الرب منه بالطريقة الطبيعية.) لم يطلب أحد أوراقه، وحيث إن الرحلة قطعت شبه الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فلم نعد قط إلى المدينة التي كنت قد استأجرته فيها. كانت أوراقه في أمتعتي، وهو أمر لم يشغلني أو يشغل أي أحد آخر، وعدت إلى إنجلترا وهي معي.
وتذكرت تلك الأوراق حين كان من الضروري إسكات الشاب كينريك . بدا كينريك قريب الشبه بشارل مارتن.
كانت خطة كينريك أن يعود إلى عمله في شركة كارتر-باترسون في الشرق حتى يأتي وقت انضمامي إليه هناك، بعدها ننطلق في رحلتنا الاستكشافية معا. وكان يأتي لزيارتي كثيرا في منزلي في بريت لين ليناقشني في أمر المسارات التي سنسلكها، ويمني نفسه بالمستقبل الذي ينتظره، وكنت أستمتع برؤيته وهو جالس يثرثر بهرائه حين حضرت له طريقة الموت الغريبة جدا.
كان قد رتب أن يذهب إلى باريس في الثالث من الشهر على متن العبارة الليلية. يبدو أنه كان «مولعا» بالعبارات. كان من شأنه أن يحيد أميالا كثيرة عن طريقه من أجل أن يعبر مسطحا مائيا على متن قارب صغير، في حين أنه كان بإمكانه أن يعبر جسرا على بعد بضع ياردات من موضعه. أظن أن عبارة دوفر كانت ستصبح العبارة رقم مائتين التي يركب على متنها. وحين أبلغني أنه حجز مقصورة نوم على متن عبارة القطارات، وما إن غادر حتى اتصلت لأحجز مقصورة نوم إلى بلدة سكون باسم شارل مارتن في الليلة نفسها.
وحين رأيته في المرة التالية اقترحت عليه، بما أنني كنت ذاهبا إلى اسكتلندا في نفس الأمسية التي سيغادر فيها إلى باريس، أنه ينبغي أن يترك أمتعته (لم يكن معه سوى حقيبتين) في غرفة حفظ الأمتعة في محطة فيكتوريا، وأن يتناول معي عشاء مبكرا في منزلي في بريت لين، وأن يودعني في محطة يوستن.
كان يسره دائما أن ينفذ أي اقتراح أطرحه عليه باندفاع، فوافق على ذلك، وكنت أعلم أنه سيفعل. تناولنا العشاء، الذي كان طبق أرز وشرائح لحم ضلع ومشمشا كان محمود قد علم السيدة لوكاس أن تعده (يتطلب هذا الطبق طهيا طويلا حتى يتشرب بنكهة المشمش)، وقاد محمود السيارة بنا إلى يوستن. وفي يوستن، أرسلت كينريك ليستلم تذكرة مقصورتي للنوم بينما مضيت قدما. وبحلول الوقت الذي عاود فيه كينريك الانضمام إلي كنت قد وجدت مقصورتي، وأنتظر عودته على الرصيف. وإن حدث وتساءل عن سبب سفري باسم شارل مارتن كان مسوغي هو شهرتي، وأنني أريد السفر متخفيا. لكنه لم يدل بأي تعليق.
شعرت بأن الآلهة كانت تساندني حين رأيت أن المضيف كان العجوز يوجورت. أنت لا تعرف العجوز يوجورت. لم يعرف عنه مطلقا طوال حياته المهنية أنه يبدي اهتماما بأي راكب أيا كان؛ إذ كان هدفه الرئيسي حين يكون في مناوبته أن يعود إلى مقصورته البغيضة في أبكر وقت ممكن لينام.
अज्ञात पृष्ठ