رجال وثيران
رجال وثيران
تأليف
يوسف إدريس
كلمة
حين عدت من الجزائر في صيف عام 1962م، كان يحدث كلما لقيت صديقا أن يسألني عن موعد صدور الرواية أو المسرحية التي لا بد سأكتبها وأستوحيها من أحداث الثورة الجزائرية، خاصة في أثناء تلك الفترة الحرجة التي أعقبت الاستقلال. كانت تلك هي المرة الثانية التي أعيش فيها مع الثورة الجزائرية؛ الأولى حدثت قبل الاستقلال بعام حين ذهبت مع بعثة والتحقنا بجيش التحرير وحضرنا بعض معاركه، والثانية كانت هذه المرة. وكنت لا أستغرب لهذا الإجماع الغريب على ضرورة أن أكتب رواية أو مسرحية عن ثورة الجزائر؛ إذ لا بد في نظر هؤلاء الأصدقاء الطيبين لشخص مثلي عاصر الثورة كفاحا مسلحا، ورآها إلى أن تجسدت على هيئة دولة بما صاحب التجسد من ميلاد أمة وخلق كيان، لا بد أن يكون أحق الناس بالكتابة عن هذا الحدث التاريخي، ومن ناحيته لا بد أن يجد هو أن من واجبه أن يكتب هذا العمل.
ولكن كل تلك اللقاءات والتساؤلات كانت تدفعني لمزيد من التعاسة. إن مشكلتي دائما أني لا أستطيع أن أكتب لأن من «واجبي» أن أكتب، ولم أجرب أبدا أن أفرض على نفسي موضوعا ولا أن أعطي لموضوع بالذات حق الأولوية في الخروج إلى حيز الوجود. ولقد انفعلت بكل ما رأيت في الجزائر قبل الاستقلال وبعده، ولكن يبدو كأن الانفعال لم يكن قد نضج إلى الدرجة الكافية لكسر القشرة الإرادية والخروج إلى الحياة. كانت الصورة الأساسية لأي عمل يكتب عن ثورة عظيمة كثورة الجزائر أنه يجب أن يكون في مستوى عظمة هذه الثورة، وأنى لي بهذا المستوى وأنا لا أزال بالكاد أتأمل ما رأيت ووعيت؟ وأنى لي به والمهمة شاقة؛ فالقضية لا تزال دافئة بالحماس، ولا يستطيع الإنسان فيها إلا أن يجاري الشعور العام المنفعل بها بحيث تبدو الموضوعية نوعا من السخف لا محل له؟
كنت أهز رأسي للأصدقاء وأقول: أجل سأكتب، حتما سأكتب. أقوله وأنا أول المدركين أني في تلك الفترة بالذات لن أستطيع، وأن إحساسي بنفسي يؤكد لي أني في حاجة إلى زمن أستوعب فيه كل شيء، والمواطنون أيضا في حاجة إلى الزمن نفسه لتثمر لهم الكتابة عن قضية حافلة كالقضية الجزائرية.
وفجأة - تماما كما تعودنا أن نقول في القصص - وجدت موضوع «رجال وثيران» يدق، مطالبا بالخروج، موضوعا كان مفاجأة تامة لي، فلم أكن أتوقع أبدا وأنا عائد من إسبانيا (لم تمض على عودتي أيام) أن يأتي بمثل تلك السرعة، ولا أن يجد لدي كل تلك الاستجابة وهذا الحماس.
وهكذا كتبت «رجال وثيران»، ليس بدلا من الموضوع الأول ولا هربا منه، ولا محاولة للرمز أو ربطه بصراع مرت به القوى الثورية في الجزائر، ولا أي شيء من هذا كله. إنها قصة مستقلة تماما، حوادثها وإن كانت تدور في إسبانيا إلا أن بطلها هو الإنسان، في إسبانيا أو في أي مكان. قصة كانت ولا تزال تثير دهشتي، فلم أكن أتوقع من مرة واحدة شاهدت فيها مصارعة الثيران بعد ظهر ذلك اليوم من أيام أغسطس المدريدية، وفي ملعبها الكبير، آخر ما كنت أتوقعه أن يختمر خلال ساعتين عشتهما مع المصارعة والثيران والمصارعين هذا العمل، أو أي عمل آخر حتى لو كان سلسلة من المقالات.
अज्ञात पृष्ठ