كانت الوصية الأولى لطالب «الإنشاء» عند أساتذة اللغة العربية بإجماع الآراء: اقرأ كتب المنفلوطي واكتب على منواله.
وكان موضوعات الإنشاء كلها تنتهي بالبكاء على بطل من الأبطال المألوفين في النظرات والعبرات، وهم كلهم أناس يبكون ويبكى عليهم؛ لأنهم مخذولون منكسرون، أو مضيعون في ذمم اللئام وقرناء السوء، وقل منهم من هو مسئول عن خيبته أو قادر على إنصاف نفسه والاقتصاص لها ممن يجني عليه، وكان من ديدن التلاميذ إذا كان الموضوع في غير هذه الأغراض أن ينحرفوا به إلى عبارة محفوظة يستطردون بعدها إلى مناسبة للبكاء والشكوى، يسردونها أحيانا بكلماتها المسطورة في القصة أو المقال.
في ذلك العهد كنت أناهز الخامسة والعشرين، وكانت قراءاتي المفضلة في فلسفة الحياة موزعة بين فكرتين تجتمع حولهما جملة الأفكار عن المثل الأعلى للشباب الناظر إلى مكانه من الدنيا ومن الناس، وهما: فكرة «السوبرمان» للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، وفكرة البطولة أو عبادة البطولة لتوماس كارليل فيلسوف البريطان الأيقوسيين، الذي كان بعض أبناء وطنه يلقبونه بالأيقوسي «المتجرمن»: لأن كتابته عن الأدب الألماني كانت أكثر وأقرب إلى الإعجاب من كتابته عن أدب بلاده.
وقد كتبت عن نيتشه مقالا في مجلة «البيان» قبل الحرب العالمية، لعله كان أحد المقالات الثلاث أو الأربع الأولى التي كتبت عنه باللغة العربية، وتحدثنا كثيرا مع الشيخ البرقوقي صاحب «البيان» عن كتاب «الأبطال»، فلم يهدأ حتى عهد إلى زميلنا الكبير «محمد السباعي» بترجمته والابتداء به قبل سائر الكتب المختارة للترجمة والتلخيص في برنامج المجلة.
ونشبت الحرب العالمية الأولى بعد قليل، فلم يكن لقراء الأدب الغربي يومئذ حديث في غير فلسفة «نيتشه»؛ داعية القوة والعظمة عند الألمان ومحرك القوم في رأي بعض النقاد إلى الحرب والمغامرة في سبيل السيادة على العالمين.
ولم أكن قط مؤمنا بفلسفة نيتشه، ولا معجبا بسوبرمانه على صفته المترددة بين أشتات أقواله ودعواته، فقد كان مثال القوة المحبوبة عندي ذلك البطل القوي الذي يعطي الضعفاء من قوته ولا يأخذ من ضعفهم لنفسه، مجتمعين كانوا أو متفرقين.
ولم يكن بطل كارليل كذلك مثلي الأعلى في تقدير العظماء، وإنما كان النفور من استكانة الضعف عندي أقوى من الأعجاب بسطوة البطولة، ما لم تكن بطولة فداء وزجر للطغاة من الأبطال، وقد حفزني التفكير اللاعج في هذه المسألة - أثناء السنة الأولى من سنوات الحرب - إلى تأليف رسالتي عن «مجمع الأحياء» للموازنة بين فلسفة القوة وفلسفة السوبرمان وفلسفة المثل الأخلاقية العليا، وجعلت ذلك على ألسنة الحيوان من الثعلب والقرد والحمامة والأسد وابن آدم وبنت حواء إلى ختام الرسالة بخطاب الطبيعة، وفي خطاب القرد أقول عن الخير أمام القوة:
وبحسب الخير أنه منذ اهتدى إليه الناس تراجعت القوة وتمردت النفوس على شريعتها، فأصبح أقوى الأقوياء لا يجرؤ على الاعتداء والجور باسم القوة العمياء، إلا أن يتمحل لها المعاذير ويتذرع لها بسبب من الحق والعدل، فبطل القول القديم: اعمل ما تستطيع. وخلفه القول الجديد: اعمل ما يحق لك عمله، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولست أعني أن القوة العمياء قد خضعت للحق كل الخضوع ودانت له في الصغائر والكبائر، فهذا ما لا يدعيه الحق، وما ينبغي للحق أن يدعي ما ليس له، ولكن عنيت أن الناس لا يسلمون اليوم بظلمها وإن اضطروا إلى الخضوع لها، ولا تقتنع ضمائرهم بشريعتها، وإن لم تكن لهم حيلة في تبديلها. ويا ضيعة العالم إن سلموا! ويا سوء المنقلب إن اقتنعوا! إذ ليس وراء ذلك إلا أن يسترخي الأقوياء فيفقدوا العزيمة والمضاء، وينزل الضعفاء عن الحياة بنزولهم عن الرجاء، فتنعدم القوة الحافزة المجددة بين هؤلاء وهؤلاء، وينهار سلم النشوء والارتقاء إلى حضيض الموت والفناء، فاذكروا يا قوم - أقوياءكم وضعفاءكم - أن التسليم للقوة الغاشمة يفسد القوي منكم والضعيف، وأنه لا شيء يشرف التسليم له الأقوياء، كما يشرف الضعفاء، غير الحق، فاتخذوه لكم قبلة وإماما، واجعلوه لكم صاحبا ولزاما، واذكروا أن العالم لم يسلك طريق هذه الآداب وله ندحة عن سلوكها، ولم يلجأ إليها وفي وسعه الاستغناء عنها؛ لأن الطبيعة لا تملك الخيار بين طريقين.
ولقد بلغ بي الاشمئزاز من الاستكانة للضعف مبلغ النفور الحسي مما لا يطاق النظر إليه بالأعين أو لا يطاق شمه بالأنوف، وبعض ذلك ظاهر من القصيدة التي نظمتها خلال الحرب العالمية، وقلت فيها أوجه الخطاب إلى الشباب الضعفاء:
نحوا وجوهكم عني فقد سئمت
अज्ञात पृष्ठ