112

وعزز هذه الصورة عندي أنني رأيته بعد ذلك يخطب بدار الجريدة وهو يلبسها، ورأيته وهو يلبسها بديوان الأوقاف؛ إذ حضر يوما لزيارة وزيرها «محمد محب باشا» وكنت في حجرة استقباله، لأسلم مدير المكتب بعض المذكرات التي تعرض على مجلس الإدارة.

أما أن «لطفي السيد» ديمقراطي المبدأ في تفكيره وسياسته ودعوته الوطنية، فلا مراء في ذلك ولا خلاف.

وأما أنه «أرستقراطي» السمت والشارة في مظهره ووجاهته، فذلك أيضا مما لا مراء فيه ولا خلاف.

ولم تطل بي الحيرة للتوفيق بين الحالتين ولا أراهما نقيضين.

لأنني لم ألبث أن شعرت من مراقبته ومراقبة الوجهاء من أبناء الفلاحين أنهم جميعا ديمقراطيون على هذا المثال، فهم كلهم ديمقراطيون؛ لأنهم ينكرون سيادة الطبقة التركية واستئثارها بشرف الوجاهة الاجتماعية، وقد كان الوجيه التركي يأبى على أكبر الوجهاء الفلاحين أن يساويه أو يصاهره أو يتخذ من المظاهر الاجتماعية مثل مظهره، وقد سمعنا الكثير من تعليقات البيوتات التركية على قبول رئيس الوزارة لمصاهرة «سعد زغلول»، وهو - على وجاهته بين أبناء الفلاحين - علم مشهور من أعلام القانون في عصره.

قال لي «عبد العزيز فهمي باشا» مرة: إن «لطفي» ديمقراطي الرأي والعقيدة، ولكنه طول عمره أرستقراطي بين الأرستقراطيين، وحكى لي أنه كان يقتني جوادا خاصا يتنقل به من بلد إلى بلد للتحقيق والتفتيش وهو وكيل للنيابة، ولا يكلف نفسه أن يطلب جوادا من خيل الشرطة كغيره من وكلاء النيابات، وأنه كان يتحدى عظمة التركي بعظمة الفلاح، فيلبس قفطان الوجيه الريفي، وهو في الدار.

إن «أحمد لطفي السيد» أشهر المنادين في الصحافة بمبدأ مصر للمصريين، قد كان ديمقراطيا ليساوي المصريين بغيرهم من أصحاب السيادة في بلادهم، وكان أرستقراطيا ليتحدى الأرستقراطيين من أولئك السادة المتغطرسين، وقد أصهر إلى أسرة رجل كان من أقران الخديو «إسماعيل» في زمانه، وهي أسرة المفتش «إسماعيل صدقي».

فليست ديمقراطية «لطفي السيد» إلغاء للعرف الاجتماعي في آداب الطبقات، ولكنها ديمقراطية المساواة بين أبناء كل طبقة من المصريين وغيرهم من الغرباء، كل الغرباء في الأصل؛ لأنهم شركاء الطبقة في المجتمع وأجانب من جميع الأجناس على عهد سيادة المحتلين.

والديمقراطية على هذه السنة بجميع معانيها هي المبدأ الواسع الذي كان يلحظه هذا الفيلسوف الوجيه في حقوق الرأي وفي حقوق الطبقة، فليس إيمانه بتغليب رأي الكثرة مانعا عنده للقلة أن تبدي رأيها وتقبل به آراء الأكثرين من المخالفين.

كان شعار «الجريدة» كلمة الفيلسوف الأندلسي «ابن حزم»، وهو من قرائه في مسائل الأخلاق والعقائد واختلاف الطوائف والعبادات.

अज्ञात पृष्ठ