اخترقنا الميدان الأحمر وسرنا بحذاء النهر. كان الليل دافئا، وأسراب الشباب تنساب مع لحن الليل الهادئ، ثنائية أو على شكل مجموعات صغيرة، تدندن أو تغني أو تلتف بعضها حول البعض وترقص على اللحن الروسي القديم: «تلك كانت الأيام يا أصدقائي التي ظننا أنها لن تنتهي، كنا نرقص ونغني إلى الأبد ونحارب وننتصر؛ لأننا كنا في شباب العمر، تلك كانت هي الأيام يا أصدقائي.»
وعلى المقاعد الخشبية بحذاء النهر كان هناك فتيان وفتيات يتبادلون العناق والقبل، الشباب هم الشباب في كل أنحاء العالم لا شيء يحول بينهم وبين تبادل العناق والقبل.
ثم عدنا إلى الفندق وجلسنا في البهو الكبير المزدحم بالناس. فندق «روسيا» هو ملتقى الوفود والمؤتمرات العالمية، وجوه كثيرة متعددة الجنسيات، وأصوات بمختلف اللهجات واللغات، وملابس وأزياء من كل نوع، أمواج من البشر، رجال يحملون الحقائب الجلدية وأوراق المؤتمر الاقتصادي، شباب يعلقون شارات المؤتمر الرياضي، ممثلات ونجوم سينما تحوطهم العدسات والأضواء، وفود النساء وطرقعات الكعوب الرفيعة، مندوبو الصحافة يهرولون وراء الشخصيات المعروفة.
وهذه مجموعة من المشايخ يرتدون القفاطين والعمم، يسيرون بخطوات بطيئة حاملين في أيديهم السبح والكتب السماوية، واستطعت أن أشق طريقي إلى شيخ معمم سمعته يتكلم اللغة العربية، اسمه الشيخ ضياء الدين، ويسمونه في الاتحاد السوفييتي باسم بابا خانوف، وهو مفتي المسلمين بآسيا الوسطى وكازكستان، درس الإسلام في طشقند على يد والده، ودرس بالأزهر بالقاهرة منذ سنين.
وسألته إلى أين تذهب؟ قال: إلى مؤتمر الأديان الذي يعقد الآن، ويحضره رجال الأديان من الاتحاد السوفييتي ومن جميع أنحاء العالم، مسلمون ومسيحيون وبوذيون وغيرهم، سيعقد المؤتمر في مدينة زافورمنسك ويشرف عليه صاحب القداسة بطرق موسكو وعموم روسيا، وأنا أيضا بصفتي مفتي المسلمين بآسيا الوسطى وكازكستان. قانون الحكومة عندنا ينص على حرية الأديان وممارسة الشعائر الدينية، سأقدم بحثا في المؤتمر عن مشكلة النزاع في الشرق الأوسط.
وجاء اليوم الأخير في الرحلة، واقترحت «فيرا» أن أزور مقبرة لينين. كنت أرى الطابور الطويل كل يوم في الميدان الأحمر، وحرس المقبرة بزيهم الرسمي يسيرون بخطى بطيئة، وعند كل دقة ساعة يؤدون التحية.
منذ الطفولة وأنا أكره الطقوس العسكرية والدينية، وحركات الجسم تبدو لي ميكانيكية، وأكثر ما كنت أكره منظر الجنود وهم واقفون بغير حراك كأعمدة النور.
لكني هبطت ذلك الصباح من غرفتي إلى البهو الكبير ثم سرت نحو الميدان الأحمر. كان الطابور أمام المقبرة طويلا، وفكرت في العودة إلى الفندق، لكن الاستطلاع جعلني أنتظر، لا بد أن هناك شيئا يستحق الرؤية طالما أن هذه الأمواج من البشر تأتي كل يوم وتنتظر بالساعات لحظة الدخول.
كان الطابور يتقدم ببطء شديد، وشمس يوليو فوق الرءوس، والعرق في الملابس، ولا أحد يتخلى عن مكانه في الصف، كطابور يوم القيامة والسير على الصراط المستقيم، لكن نار جهنم ليست تحت أقدامنا، وإنما هي فوق رءوسنا، ومن فوقها قباب الكرملين تعلوها النجمة الحمراء.
أخيرا وجدت نفسي على عتبة المقبرة، ولفحت وجهي نسمة باردة مكيفة، سرت بخطوات بطيئة وراء السائرين، ورأيت لينين راقدا داخل غرفة زجاجية، يسقط على وجهه ضوء أحمر خافت يخفي شحوب البشرة ويكسبها لونا ورديا صناعيا، العيون شاخصة نحوه في خشوع كالصلاة الصامتة.
अज्ञात पृष्ठ