وبعد منتصف الليل أعود إلى حجرتي الصغيرة في فندق «غالي» في هلسنكي، الشمس من وراء الغابة الكبيرة معلقة في السماء، ولا أكاد أعرف الليل من النهار لولا التعب الطبيعي يصيب أجسامنا ساعة النوم، فأسدل الستارة الكثيفة على زجاج النافذة لأخفي ضوء الشمس ولأصنع داخل غرفتي ليلا صناعيا فأستطيع أن أنام، كنا في يونيو عام 1969. وهذه الليالي البيضاء في فنلندة تستمر تسعين ليلة في فصل الصيف، ويقابلها في الشتاء الأيام السوداء، حيث لا نهار ولا شمس، وإنما ليل دائم طوال الأربع والعشرين ساعة.
وشوارع هلسنكي نظيفة هادئة، ووجوه الناس نظيفة هادئة. لا يكاد يبدو عليها انفعال، سكون غريب في العيون كسكون البئر، فيه صفاء ولكنه صفاء بارد برودة الماء المخزون في بطن الأرض.
وكل شيء في هلسنكي بارد وساكن، حتى شمس الصيف وعيون النساء وعيون الرجال أيضا، ولعل ذلك انعكاس الطبيعة الباردة أو انعكاس السياسة المحايدة الصامدة بغير انفعال نحو شرق أو غرب أو يسار أو يمين.
ولكن هذا هو سطح هلسنكي الخارجي. هذه هي الطبقة الثلجية المتجمدة على سطح بحر فنلندة، إذا ما كسرت بالسفن الفنلندية الحديثة أو ذابت تحت شمس الصيف انبثق الماء من تحتها غزيرا ودافئا، وكشفت القلوب الفنلندية عن طبيعتها الإنسانية التي لا تختلف عن الطبيعة الإنسانية في أي مكان وزمان. وحتى في السياسة، تحت تلك الطبقة الحيادية الباردة بغير انفعال صراع دائم بين ثمانية أحزاب سياسية: المحافظين، الأحرار، الوسط، الفلاحين، (الاشتراكيين الديمقراطيين)، حزب المعارضة، (الفنلنديين الديمقراطيين)، الأقلية السويدية.
ويقابل الحزب الاشتراكي الديمقراطي حزب العمال في بريطانيا، ويمثل حزب الفنلنديين الديمقراطيين أقصى اليسار. وهذان الحزبان يفوزان وحدهما بنصف مقاعد البرلمان، ويفوز بالنصف الباقي ممثلون عن الأحزاب الستة الأخرى، ولم يحدث أن فاز حزب واحد بالأغلبية، ورغم الصراع الدائم بين ممثلي اليسار وممثلي اليمين إلا أن حالة التوازن تكاد تكون دائمة والحكومة تمثل مجموعة من الأحزاب وليس حزبا واحدا.
حصلت فنلندة على استقلالها وأعلنت جمهوريتها المستقلة، وخرجت من تحت سيطرة روسيا القيصرية سنة 1917، وهي نفس السنة التي تحررت فيها روسيا نفسها من قبضة القيصر، وتكونت أول دولة اشتراكية في الاتحاد السوفييتي برئاسة لينين.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتوقيع معاهدة السلام في باريس سنة 1947 أعلنت فنلندة تصميمها على الوقوف على الحياد وبقائها خارج صراع القوى الكبيرة في العالم.
وفي سنة 1952 تكون مجلس الدولة الاسكندنافية الذي يضم الدول الخمس: السويد، النرويج، الدانمارك، أيسلاندة، فنلندة، وأصبح يسود هذه المنطقة الشمالية من أوروبا نظام اجتماعي وسياسي واحد، وجواز سفر واحد، وموقف واحد داخل هيئة الأمم المتحدة، هو الموقف الحيادي الدائم البارد بغير انفعال مهما انفعل العالم ومهما بلغ الصراع ذروته بين ما يطلق عليها بالقوى الكبيرة في العالم.
هذا هو الموقف الحكومي. أما الشعب فهو كأي شعب آخر في العالم لا يمكن أن يكون حياديا في عالم يغلي والحروب تشتعل هنا وهناك ويقتل بعضه بعضا.
قالت لي إحدى السيدات الفنلنديات: قرأنا كثيرا عن كفاح شعب فيتنام، وعن الحروب الدائرة في الشرق الأوسط، وشعب فلسطين الذي طرد من وطنه ... الاستعمار والإمبريالية الأمريكية هي التي وراء كل هذا ! وضاعت القشرة الخارجية الساكنة وبدأ الانفعال والنقاش.
अज्ञात पृष्ठ