وقال الدكتور تراسل: لا تظني أن كل الجامعات في أمريكا بهذه العقلية المتخلفة. •••
عشت في «مانهاتن» في قلب نيويورك ؛ مكاني المفضل دائما هو في قلب الأشياء، أحس نبض الحياة في تدفقها، وإذا كانت «مانهاتن» هي قلب أمريكا النابض فإن «رالي» كانت القدم أو قاع القدم، وذكراها عندي كالحلم البغيض، كالقرية المشوهة المتوارثة من قرى العصور الوسطى، رغم الأبنية الحديثة، والشوارع المرصوفة شبه المهجورة، وردهات الجامعة ذات الكآبة.
لكن هنا في «مانهاتن» كل شيء يتحرك بحيوية، والناس خطواتهم سريعة، وفي حي «جرينتش» يجلس الناس على المقاهي فوق الأرصفة كأنها باريس، يأكلون ويشربون ويتحدثون، والشباب يجلسون على العشب في ميدان واشنطن قرب جامعة نيويورك، مجموعة من الشباب تعزف على الجيتار وتغني وترقص، والناس يلتفون حولها ويغنون، وتحت الأشجار على الدكك الخشبية جلس بعض العجائز ومن حولهم أطفال يلعبون.
في الطرف الآخر من الميدان حلقة من الشباب يلتفون حول شاب وقف على شيء عال وأخذ يخطب، إنه «كي مارتن». كان يلوح يديه في الهواء غاضبا قائلا: «مالكوم إكس قتلوه في قلب أمريكا كما قتلوا لومومبا في أفريقيا! لماذا لا نكف أيدينا عن آسيا وأفريقيا؟ ألا نوقف هذا الخداع؟ ألا نوقف هذه الأسلحة المتنكرة داخل علب الطعام والمعونات الأمريكية!»
واقترب مني شاب صغير، ناولني مجلة سوداء كتب عليها بخط أبيض عريض: البارتزان، مجلة جمعية الشاب ضد الحرب والفاشست، وعلى صفحات المجلة صور لجنود صرعى في فيتنام، أشلاء ممزقة تختلط فيها أجساد الأمريكيين بالفيتناميين.
وفي جامعة كولومبيا تعرفت على زميلة لي اسمها مايون. كانت عضوا في جامعة تنظم المظاهرات ضد الحرب في فيتنام، طويلة نحيفة وشعرها رمادي قصير، عيناها زرقاوان واسعتان لامعتان، وما إن تنتهي المحاضرات حتى تدور على الزملاء والزميلات توزع عليهم المنشورات والصور ضد حرب فيتنام.
وفي عطلة نهاية الأسبوع نذهب معا إلى السينما، أو المسرح، أو نلعب التنس في النادي، وفي المظاهرات نرفع اللافتات معا ونهتف مع الشباب: أوقفوا الحرب في فيتنام.
في إحدى المظاهرات رأيت ثلاثة من رجال البوليس يحوطون شابا أسود طويلا، ورأيت ماريون تندفع نحوهم وتحاول انتزاع الشاب منهم وهي تضربهم بقدمها بالشلوت، وتجمع الشباب حول رجال البوليس يضربونهم بالأقدام، وانطلقت الصفارات من كل مكان، وهجمت علينا السيارات المسلحة، ووجدت يد ماريون في يدي ونحن نجري لنهرب داخل أحد البيوت، وصوت الصفارات يدوي مع صوت الهتافات: يسقط جونسون!
ومن وراء الجدار حيث اختبأنا كان قلبي يدق بعنف وصدري يعلو ويهبط في أنفاس لاهثة متقطعة، وتعود إلى ذاكرتي صورتي منذ خمسة عشر عاما، وصدري يلهث وقلبي يدق، وأنا مختبئة وراء الجدار وطلقات الرصاص تدوي مع هتافات الطلبة: يسقط الملك! •••
وفي يوم آخر أخذتني ماريون إلى اجتماع كبير تحدث فيه الدكتور «ستوتن ليند» وهو أستاذ أمريكي بجامعة «بيل» سحبوا منه جواز سفره؛ لأنه ذهب إلى فيتنام في رحلة لتقصي الحقائق، وعاد ينظم المظاهرات ضد الحرب في فيتنام، قدمتني له ماريون قائلة: هي زميلة معي في جامعة كولومبيا وطبيبة مصرية، وأذكر أن ستوتن ليند قال لي يومها: إن مشكلة فلسطين لا تقل خطورة عن مشكلة فيتنام، لكن القوى الصهيونية في أمريكا تملك البنوك وأجهزة الإعلام، وقلت له: ولماذا لا تذهب في رحلة لتقصي الحقائق بالشرق الأوسط كما ذهبت إلى فيتنام؟ وضحك قائلا: حين أسترد من الحكومة جواز سفري. •••
अज्ञात पृष्ठ