وفي الطائرة جلست وربطت حزام المقعد، طغى صوت الطائرة على صوتها، فلم أعد أسمعه، لكن بعد الإقلاع فككت الحزام من حولي وسرت في الممر حتى مؤخرة الطائرة، ووقفت أطل على باريس من النافذة الخلفية، الأنوار كعناقيد اللؤلؤ فوق مربعات حمراء، ومن فوق الأنوار زرقة لامعة، ونظرت إلى وجهي في المرآة المعلقة فوق الحوض، كأنما وجه جديد يطل علي، الملامح تشبه ملامحي القديمة لكنها أصبحت كالملامح الجديدة، البشرة تتألق بلون أكثر حمرة، العينان أكثر اتساعا، و«النني» الأسود أشد بريقا، وهمست للمرآة: أنت جميلة يا سيدتي.
وسمعت صوتي بأذني: أنت جميلة يا سيدتي. لأول مرة أقولها لنفسي بصوت عال، كنت أهمس بها بلا صوت حتى لا يسمعني أحد، فلم يكن هناك أحد في الوطن يرى أنني جميلة إلا أنا، ولم أعرف لماذا؟ لكن مقاييس الجمال لم تكن تنطبق علي، وفي أعماقي كانت لي مقاييس أخرى، وبيني وبين نفسي أدرك أن هذه المقاييس تنطبق علي، إدراك فطري نابع من أعماقي وليس له دليل في العالم الخارجي، ومع ذلك فهو إدراك كامل يشبه اليقين، أو هو اليقين ذاته.
إلا أن اليقين يشوبه الشك؛ فلا أحد من حولي يقول لي، ومنذ الطفولة لم أسمع أحدا يقول لي: أنت جميلة. لا أبي ولا أمي، وجدتي آمنة كانت تمصمص شفتيها في حسرة وتقول إنني ورثت بشرة أبي السمراء، وجدتي مبروكة ترمق أسناني الأمامية البارزة وتمط بوزها قائلة: «ورثت الضب عن أمك.» وفي المدرسة حين تغضب مني البنات يقلن لي: إنني طويلة ونحيفة مثل عمود السواري.
ولم تكن أمي تعتبر قامتي الطويلة عيبا. لكنها كانت ترى أختي الأصغر أجمل مني؛ لأنها ورثت بشرتها البيضاء وشعرها الناعم.
لم يكن شعري خشنا. لكنه ناعم أيضا، وكانت فيه تموجات طبيعية، لكن خالتي كانت تراه خشنا، وتأخذني معها إلى الحلاق ليكوي شعري بالمكواة الحديدية بعد أن يحميها على النار، وأشم في أنفي رائحة احتراق الشعر، وأختنق بالشياط والدخان، وأشد رأسي بين يدي الحلاق فتلسع المكواة أذني أو طرف أنفي.
وحين يدب الخلاف بين خالتي وعمتي تتهمني خالتي بأن شعري أكرت وبشرتي سوداء مثل جدود أبي. أما عمتي فكانت تقول إن «الضب» جاءني من جدود أمي.
واشترت لي خالتي علبة بودرة بيضاء أخفي بها بشرتي السمراء، وعمتي كانت تنصحني بألا أفتح فمي وأنا أضحك. أما القامة الطويلة فلم يكن لها من علاج إلا أن أسير بظهر محني.
وشددت عضلات ظهري وعنقي حتى ارتطم رأسي بسقف الطائرة المنخفض، وغسلت وجهي بماء الكولونيا لأفتح مسام البشرة وأطهرها من آثار المساحيق.
وفي كل مرة أرفع رأسي نحو المرآة في الطائرة أرى وجهي أجمل، وفي كل رحلة خارج الوطن كنت أندهش.
وجهي دائما يبدو أجمل في مرايا الطائرات عنه في المرايا في بيتي أو أي مرايا أخرى في الوطن كنت. ولم أعرف هل كانت ملامحي تتغير بمجرد اختراق الحدود، أم أن نوع المرايا في الطائرات كان أجود؟ •••
अज्ञात पृष्ठ