الطائرة الفرنسية تنقلني من باريس إلى داكار، أحملق من الجو على مضيق جبل طارق، المضيفة الفرنسية الشقراء تضع أمامي صينية الأكل وزجاجة النبيذ، ودفترا بأنواع الموسيقى، وسماعات صغيرة أضعها في أذني وأحرك بطرف أصابعي «زرا» مثبتا في المقعد، وأسمع بيتهوفن أو شوبان أو موزار، أحرك طرف أصبعي قليلا فوق «الزر» فتتغير القناة، وأسمع موسيقى الجاز، اثنتا عشرة قناة مختلفة تنقل إلي وأنا في الجو اثنا عشر نوعا من الموسيقى، ابتداء من السيمفونيات الكلاسيكية إلى رقصة الكونجو في أفريقيا.
على الشاشة أمامي يعرض فيلم أمريكي «الحب والجريمة»؛ طلقات الرصاص والخيول تقفز فوق جبال واغتصاب جنسي لفتاة زنجية.
أنام ثم أصحو على صوت المضيفة يعلن بالفرنسية أننا نهبط في داكار، شمس حارقة، وتراب ورائحة العرق، وأجساد راقدة على الأرض، حملتني سيارة الأمم المتحدة إلى الفندق الضخم المطل على البحر، وحول أطباق اللحم المشوي وكئوس النبيذ المثلج جلست وسط خبراء الأمم المتحدة وفي جيب كل خبير مشروع جديد للتنمية.
منذ عملت بالأمم المتحدة وأنا أشهد هؤلاء الخبراء الدوليين. لم أكن أعرفهم على حقيقتهم، وكانت كلمة «خبير» حين ترن في أذني تصيبني بالرهبة.
كنت لا أزال أعمل بالحكومة، وما إن يأتي أحد من هؤلاء الخبراء لمقابلة الوزير حتى ترتعد فرائص الوزارة كلها، وتنتقل إلي الرعدة بالعدوى، وأجلس أمام «الخبير الدولي» منكمشة في مقعدي مرهفة الأذنين، أخشى أن تفوتني كلمة أو درة من تلك الدرر التي يمكن أن تتساقط من فمه. وكنت أتهم نفسي بالغباء حين لا أفهم شيئا مما يقوله الخبير الدولي، أو لا أعرف الصلة بين ما يقوله وبين مشكلة الجوع في مصر أو الهند، والتي تخصص فيها وهو يعيش في نيويورك أو باريس ويتغذى غذاء كاملا، وحين يزور مصر أو الهند ينزل في فندق هيلتون أو مينا هاوس. إلى أن أتاح الله لي الفرصة الكاملة لمعرفة هؤلاء الخبراء العالميين في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم الدولية والتي فيها يمرحون ويسرحون ويسيحون بالعالم الثالث، وكل همهم هو أن يحلوا لنا نحن الفقراء مشكلة الجوع، وفي كل مؤتمر أحضره أندهش لهذا الكم الهائل من حفلات العشاء والكوكتيل، وهذا الحماس النادر لمشكلة الجوع من فوق الأطباق المملوءة باللحم والدجاج.
لم أكن أحضر الحفلات، ولا أتزين أو أرتدي الملابس الأنيقة كالخبيرات الدوليات، وهيئتي كانت تتخذ دائما شكل امرأة من فقراء العالم الثالث، فإذا بخبراء الأمم المتحدة يندهشون ويعتبرون وجودي بينهم كالشيء النشاز.
لكن حديثهم يفيض حبا للفقر والفقراء، ولا يكفون عن الحديث عن الجوع في اجتماعاتهم وحفلاتهم وأوراقهم وبحوثهم، وما إن يرون جائعا أو فقيرا حتى يتأففوا.
وكنت أجلس بين هؤلاء الخبراء أتأملهم وأسمعهم كموظفي الحكومة، لهم شكل واحد ولهم طريقة واحدة في النطق، وفي حركة الشفاه والعينين واليدين، بل إن شكل حقائبهم واحد ونوعها واحد (من السامسونايت) والأوراق داخلها أيضا شكلها واحد، وتقاريرهم صيغتها واحدة.
وكنت أقول: إن موظفي الحكومة لهم عذرهم؛ فالحكومة تسك الموظفين كما تسك النقود، أما الخبراء الدوليون فمن الذي يسكهم ليصبح الواحد منهم نسخة من الآخر؟!
في فندق داكار الفخم المطل على المحيط الأطلسي جلست وسط هؤلاء الخبراء الدوليين، عرض أحدهم مشروعا جديدا للتنمية في السنغال، ميزانية المشروع 126 ألف دولار، قسمت كالآتي:
अज्ञात पृष्ठ