كان يعشق الرحلات، وفي كل رحلة يأخذ معه جواهره وتاجه خشية أن يسرق في غيابه، ويأخذ معه أيضا رجاله المشكوك فيهم ويترك الموثوق فيهم.
ولم يكن أحد يفهم هذا التناقض؛ فالمفروض أن يصطحب الحاكم هؤلاء الذين يثق فيهم، لكن هيلاسلاسي كان يفعل العكس، يأخذ معه المشكوك فيهم حتى لا يقوموا بمؤامرة ضده في غيابه، وبذلك حرم رجاله المخلصين من رحلاته الكثيرة الممتعة، واستمتع المتآمرون ضده بالسفر والنزهات العالمية.
لكن عدد المتآمرين ضد هيلاسلاسي كان يتزايد على الدوام، ولم يكن في إمكانه أن يأخذهم كلهم معه في رحلاته، وكان الفساد قد عم وانتشر السخط بين معظم طبقات الشعب: الفلاحين والعمال والتجار والطلبة، وامتد السخط أيضا ليشمل رجال الجيش والبوليس، بل الحرس الإمبراطوري ذاته.
وكان هناك رجل جسور اسمه «منجستو جيرمام». كان رئيس الحرس الإمبراطوري. وقد استطاع مع رئيس البوليس الإمبراطوري ورئيس جهاز الأمن بالقصر أن يشكلوا «المجلس الثوري» من أربعة وعشرين ضابطا.
وفي رحلة للإمبراطور إلى البرازيل في ديسمبر عام 1960 قام المجلس الثوري بقيادة منجستو بعزل الإمبراطور هيلاسلاسي، وشكلت حكومة جديدة يرأسها ابن هيلاسلاسي الأمير كاسا، وكان رئيس مجلس التاج وأعضاؤه من الوزراء وأصحاب الأراضي الأثرياء، وكانت هناك إشاعة بأن الإمبراطور كان دائم الشك في نسب هذا الابن إليه، وأن زوجته خانته مع رجل آخر وأنجبت «كاسا».
كاد الانقلاب ينجح لولا أن أسلاك التليفون بين أديس أبابا والخارج لم تقطع، واستطاع أعوان الإمبراطور الاتصال به تليفونيا في البرازيل، فعاد في طائرة، واستطاع أن يجمع حوله بعض رجال الحرس، وكان هناك صراع بين رجال الجيش ورجال الحرس، وذهب منجستو يخطب في الجامعة ضد الإمبراطور وطبقة الأثرياء الأرستقراطيين، لكن جموع الفلاحين كانت لا تزال تؤمن بالإله هيلاسلاسي وأعوانه، وتدافع عنه بالطوب والعصى ضد الشيطان. وانتصر هيلاسلاسي وأعوانه، وهربت الفرق الثائرة إلى الغابات، وانطلق الرصاص في أثرهم، وأقبلت الضباع والأسود الجائعة على صوت الرصاص وأكلت منهم ما أكلت، والثعالب أيضا أكلت، وبلغ عدد الذين أكلوا عشرة آلاف رجل، واعتقل هيلاسلاسي من لم تأكله الضباع، وبلغ عدد المعتقلين خمسة آلاف، شنق منهم هيلاسلاسي من شنق، وعلق رءوسهم على الأبواب. أما «منجستو» فقد تم إعدامه في الميدان العام.
وعاد هيلاسلاسي يحكم الحبشة بأمر الله، وأعلن أن الله نصره على أعدائه، وضاعف من عدد جهاز المخابرات كتدعيم لقوة الله، وضاعف لهم المكافآت والامتيازات، وتضاعف الفساد والرشاوي، وأصبحت الطائرات الإثيوبية تحلق في الجو ما بين باريس وأديس أبابا تحمل زجاجات الشمبانيا والكافيار للإمبراطور وأعوانه، واكتظت شوارع أديس أبابا بالشحاذين العراة، ودفعهم الجوع إلى الهجرة من القرى إلى المدينة بحثا عن الطعام أو مهنة في الحلال أو الحرام، بعضهم لم يجد أمامه إلا الشحاذة، والبعض الآخر الأذكى أصبح نشالا أو قوادا، والبنات الصغيرات يبعن أجسادهن نظير سد الرمق ، والمرأة العجوز تفتح دكانا لبيع الكوكولا والسجائر، وتخصص الغرف الداخلية للدعارة، وعلى كل ناصية شارع ترى دكاكين الدعارة ومن فوقها كتب: كوكولا، ومن تحتها مومس حبشية.
وبدأ الفلاحون يموتون من الجوع، ومواشيهم تموت من الجوع أيضا، ويدفن الفلاح إلى جوار حماره في حفرة واحدة، وامتدت المجاعة إلى الجنود أولاد الفلاحين، وبدأت جثث الجنود تظهر في بعض الشوارع، ولم يكن من حق الجندي في الحبشة أن يدفن حين يموت. كان هذا الحق مقصورا على الضباط فقط.
وفي عام 1973 شوهد الإمبراطور هيلاسلاسي وهو يلعب الجمباز في حديقة القصر ويقدم الكافيار لكلبه في صحن من الفضة، وكانت رائحة الجثث قد بدأت تزكم الأنوف، والسخط امتد ليشمل معظم الرجال والحرس الإمبراطوري والطلبة والعمال والتجار والقوادين والمومسات.
وكان في قصر الإمبراطور خادمة لها ابن ضابط في الجيش اسمه منجستو هايل مريام، وهجم رجال الجيش المتمردون بقيادة منجستو هايل مريام على مقر الحكومة ووضعوا الوزراء في السجون، وارتدى هيلاسلاسي الزي العسكري وحمل عصا المارشال وأعلن أنه مع الضباط المتمردين.
अज्ञात पृष्ठ