لكن الأبواب ظلت مغلقة، ومن خلال النافذة الزجاجية المستديرة رأيت شرفة المودعين، والأيادي المرفوعة تلوح في الهواء، ليس من بينها يد واحدة تلوح لي، والوجوه كثيرة ليس من بينها وجه واحد أعرفه.
ودار رأسي مع الطائرة وهي تستدير بعيدا عن مبنى المطار، غامت عيناي تحت ضباب مفاجئ. من خلال الغمامة لاح لي وجه طفلتي، يدها الصغيرة تلوح لي وعيناها العسليتان فيهما دموع، اقتربت منها لأقبلها، والتفت أصابع يدها الخمس حول أصابعي بقوة.
الألم عند نهاية الضلوع، تحت القلب مباشرة، عميق وثقيل كقطعة الرصاص، قطعة مني لا تزال هناك، في تلك الشقة الصغيرة، بشرتها من لون بشرتي، وأصابع يدها تشبه أصابعي، تحبو على يديها وقدميها وتتطلع بعينيها الواسعتين نحو غرفة نومي فلا تجدني. شددت جسمي كأنما سأنهض وأعود، أمومة مفاجئة على شكل حنين جارف يجهض فرحتي بالسفر، أحاول أن أنهض لكني مربوطة في مقعدي بحزام سميك، والوطن يلوح لي من بعيد على شكل وجه طفولي مستدير، وعيناه عسليتان مليئتان بالدموع، وأصابع خمس دقيقة ما إن تلامس أصبعي حتى تلتف حوله كالوتد تربطني بالوطن، كالجذر الممدود في الأرض، وأصبح كالشجرة الأم وأنا لم أعش طفولتي بعد، أمومتي وطفولتي تعيشان داخل كياني في تناقض متوازن، وحنيني لابنتي كحنين للوطن متناقض، رغبة في الفرار.
أول رحلة خارج الوطن منذ عشرين عاما تبدو لي وكأنما بالأمس، والرعشة على أطراف أصابعي وأنا أتحسس حزام المقعد، وهدير الطائرة في أذني وهي تهم بالإقلاع، ثم انفصالي المفاجئ عن الأرض، والارتفاع في الجو، وخفقات قلبي تتصاعد وتتصاعد، الطائرة تهتز كأنما ستسقط، والضربات تحت ضلوعي تتوقف، إلى جواري رجل يقرأ في جريدة أجنبية كأنه جالس في بيته، له أنف طويل مقوس وبشرة بيضاء محمرة، يرتدي ربطة عنق ضخمة متعددة الألوان، وأصابعه حول الجريدة طويلة بيضاء، أظافرها مشذبة بعناية فائقة.
الرمال الصفراء تتسع وتتسع من خلال النافذة الزجاجية المستديرة والبيوت تبتعد ويصغر حجمها، نهر النيل كالشريط الرفيع الأبيض، الشاطئان شريطان لونهما أسود، ثم الصحراء كبحر من الرمال الممتدة في الأفق.
لأول مرة أرى الوطن من مسافة بعيدة، أصبح الوطن صغيرا، مجرد خط ملتو كالثعبان الرفيع في مساحة صفراء، كل شيء في حياتي أصبح صغيرا؛ أفراحي وأحزاني، أمومتي وطفولتي، آمالي وأحلامي، كل شيء أصبح صغيرا. حتى عبد الناصر بصوته المدوي كل يوم، وصفوف رجال الدولة الراجفين أمامه، أصبحوا جميعا مجرد سطر صغير في ذيل الصفحة في الجريدة الأجنبية تحوطها أصابع الرجل الغريب.
كنت أظن أن وطني هو كل العالم بمثل ما كنت أظن وأنا طفلة أن شارعنا هو كل الوطن. وكلما كنت أكبر كان الشارع يصغر. وحين امتد كياني خارج الوطن انكمش حجم الأرض وملأني إحساس جديد بأنني أكبر مما كنت. •••
جناح الطائرة من خلال النافذة الزجاجية ثابت الحجم، ثابت الجسد. لا يتحرك، معلق في الفضاء فوق أمواج من السحب البيضاء الثابتة. لا شيء في الكون يتحرك: لا السحب ولا الطائرة ولا حتى «الشاي» في الفنجان الموضوع لي على منضدة بيضاء بلاستيك معلقة في ظهر المقعد أمامي.
حملقت في الثبات ساعة وراء ساعة، ثم اكتشفت أن السفر بالقطار كان أكثر متعة؛ فالحركة كنت أراها من نافذة القطار، أعمدة السواري والأشجار تجري إلى الوراء بسرعة لا تلاحقها العين، تملؤني بحركة الحياة وانطلاق نحو الهدف بأقصى سرعة، والدم يجري في عروقي بالسرعة نفسها، وإحساس طاغ بالسعادة. منذ طفولتي كان للسفر فرحة كالعيد، أرتدي له ملابس جديدة وحذاء جديدا، ولا أنام من الفرح، وأصحو قبل أذان الفجر أو صياح الديوك. السفر كان في سيارة أو قطار، وداخل حدود الوطن: من القاهرة إلى قريتنا كفر طحلة، أو إلى منوف، أو الإسكندرية، أو الجيزة، أو حيث تشاء وزارة المعارف أن تنقل أبي.
وأتسابق أنا وإخوتي للجلوس بجوار النافذة، أخي كان يكبرني بعام واحد، وكنت أسبقه إلى النافذة، لكن أخي الأصغر كان يبكي ويتشبث بالنافذة فأترك له المقعد، أخواتي البنات كن أصغر مني، تجلس أصغرهن على ركبتي أمي.
अज्ञात पृष्ठ