هذه هي ميزة الهند التي لم أجدها في بلد آخر، وكم من بلاد زرتها فشعرت بالغربة مع نفسي والناس، بل كم شعرت بالغربة عن نفسي والناس في وطني أحيانا.
أعطتني الشهور التي عشتها في الهند وقتا كافيا لأقرأ شيئا من الأدب الهندي. كان في خطتي أن ألتقي بعدد من الأدباء والأديبات ذوي الإنتاج الجيد، ولم تكن هناك وسيلة لاختيار هؤلاء سوى أن أقرأ بعض الروايات والقصص، فإذا ما أعجبني شيء أكتب اسم المؤلف أو المؤلفة، كنت في رحلاتي السابقة أسأل أهل البلد عن أدبائهم وأديباتهم، ويذكرون لي بعض الأسماء المشهورة، وعلمتني التجارب أن هؤلاء لم يكونوا دائما أفضل الأدباء أو الأديبات؛ كأنما الشهرة تتناسب تناسبا عكسيا مع جودة الإنتاج الأدبي.
لم أكن متحمسة للقاء الأدباء الرجال، ليس ذلك لكونهم رجالا، ولكن لأنني وجدت بين إنتاج النساء ما استوقفني، وبمثل ما استوقفني كفاح المرأة الهندية في السياسة ونشاطها في الأحزاب استوقفني أدب المرأة الهندية، وبمثل ما أعجبت بشجاعة أنديرا غاندي وقوتها في حسم الأمور أعجبت بشجاعة المرأة الهندية التي تمسك القلم وتكتب.
والمرأة التي تكتب في الهند تتناول جميع القضايا في بلدها وفي الحياة تحليلا ونقدا بغير خوف ولا حرج. لا شيء أمامها اسمه موضوع حساس. لا في السياسة ولا في الدولة ولا في الحب وفي الجنس ولا في العمل، كل شيء في الهند وفي العالم أمام قلمها قابل للعرض والكشف.
إحدى الكاتبات واسمها «ساهجال» كتبت تنقد الحكومة وتنقد سياسة أنديرا غاندي، وبصرف النظر عن سلامة رأيها أو عدم سلامته فإنها استطاعت أن تعبر عن نفسها، ولم تستطع الحكومة أن تمنعها، بل والأهم من ذلك أن شيئا لم يحدث لها وظلت صداقتها بأنديرا غاندي كما هي، وساهجال تكتب في السياسة، وتكتب أيضا روايات وقصص، في روايتها الأخيرة بعنوان «هذا الظل» تكتشف حياة المرأة المطلقة في الهند، وتنقد كثيرا من التقاليد التي تحيط بالمرأة الهندية.
شربت الشاي الهندي في بيت ساهجال في دلهي، وحدثتني عن حياتها، وعن علاقتها بالزعيم نهرو، وعرفت أنها ابنة شقيقة نهرو، وأنها تأثرت إلى حد كبير بشخصية نهرو؛ لأنها نشأت في أسرته.
إحدى الكاتبات في الهند اسمها «كاملاداس» تمسك القلم كأنه مشرط في يد جراح، تشق اللحم وتكشف النخاع، تكتب عن حياتها بالشجاعة نفسها التي تكتب بها عن حياة الآخرين، آخر كتاباتها هي مذكرات حياتها. تقول عن نفسها إنها لا تملك إلا الصدق. وهذا الصدق دفعها إلى أن تترك بيتها وزوجها والمدينة الكبيرة بومباي وتذهب لتعيش في قريتها مع أهلها الأصليين «الناير»، حيث الثقافة الهندية الأصيلة وحيث تحترم المرأة ولها السيادة داخل البيت وخارجه كالإلهات القديمات. أمها كانت تكتب الشعر وهي راقدة على بطنها في سرير من أربعة عمدان. أما هي فكانت تنام ناحية قدمي زوجها، تركت بيتها وأولادها لزوجها وذهبت إلى البحر والصيادين. كان لها أصدقاء يشاركونها رؤية الجاموس والطبيعة. أما زوجها فلم يكن لديه وقت لرؤية جسم جميل ورائحة طيبة في السرير، أحيانا كانت تخلع «الساري» وتنزل في البحر ويضحك أصدقاؤها. كان النهر بغير ضفاف كأنهر الهند التي تفيض وتغرق القرى، عرفت الحب وظنت أن الحب إلى الأبد والشباب إلى الأبد، ولكنها عرفت بعد سنوات طويلة أن الوحدة هي التي إلى الأبد فقط.
النساء يملأن الفراغ داخلهن بالحب والأطفال. حين يملهن الحب وحين يكبر أطفالهن، ويذهبون إلى أذرع أخرى يتجهن إلى الله، واتجهت كاملاداس إلى آلهة الهند، اتجهت إلى شيفا وكريشنا وديرجا، لكن لم يستطع أي إله منهم أن ينفعها بشيء. كانت تكبر في السن وتزداد وحدتها، أصبح من الصعب - بل من المستحيل - أن يحبها أحد أو تحب هي أحدا.
حاولت أن تحتفظ بصدقها وشجاعتها لتشق طريقها نحو الموت دون أن تندم على حياتها الماضية، حين كانت تقارن زوجها بالأزواج الآخرين تشعر بعدم الرضا، لكن زواجها نجح لسبب واحد هو أن زوجها كف أن ينظر إليه كزوج، وملكت هي حريتها، الفرق بين الإله والإنسان هي الحرية، الإله حر والإنسان عبد، كاملاداس فخورة بأصلها من «الناير» الذي كان مجتمعا متعدد الأزواج في «كيرالا» حتى الربع الثاني من هذا القرن، مراسيم الزواج لم تكن تستغرق إلا دقيقة واحدة ثم يدخل الزوج إلى حجرة نوم زوجته. لم يكن ينفق عليها، ولا يعيش معها في بيتها، ولكنه يأتي إليها ليلا في ضوء القمر وينادي عليها قائلا «هو ... هو ...» حينما تسمح له زوجته بالدخول إلى حجرتها يدخل، وإلا فعليه أن ينتظر أو ينصرف إذا كان معها زوجها الآخر. كانت المرأة هي صاحبة النسب وتشعر بكرامتها.
تعرضت كاملاداس لبعض الهجوم لكنها تقول: إن معظم قرائها من الرجال والنساء سعداء بامرأة شجاعة تكتب أفكارها بصدق، طلبت منها إحدى الهيئات أن تقوم ببحث عن القيم الأخلاقية بين الأزواج في مدينة بومباي، وقامت كاملاداس بالبحث ونشرت نتائجه على الناس.
अज्ञात पृष्ठ