नूबा के समय में यात्रा
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
शैलियों
وفيما يشبه ميدان النجع؛ أي الأرض الواسعة بين البيوت، فرشت لي سيدات النجع أحد الأبراش وفوقه مرتبة رقيقة، استأت لهذا الترتيب، ومرد الاستياء شيئان دارا في ذهني؛ أولهما: لماذا لا ننام على عنجريب داخل أحد البيوت؟ وثانيهما: خوفي الشديد من العقارب والثعابين السامة التي تجوب النوبة بحثا عن رزقها في ظلمة الليل، ففي الشتاء تسكن هذه الكائنات هربا من البرد، وبالتالي فإن أخطارها قليلة في الفصل البارد، فماذا عن الصيف؟ وكنا في القاهرة قد بحثنا عن مصل ضد لدغة العقرب والثعبان دون جدوى، وحتى لو كان معنا فبماذا يفيدني في موقفي هذا وكل أغراضنا في القارب بعيدا على البر الشرقي؟!
وكانت الإجابة العملية لاستيائي الأول هو أن السيدات والأطفال قد افترشن الرمل حولي، وكذا فعل الكلب الوحيد في النجع، وأخذنا نتجاذب الحديث حول موضوعين؛ الأول: أن زوجي وزميله والقارب في أمان على البر الشرقي. والثاني: أن الريس محمد أخذ قاربه الشراعي الصغير منذ الصباح الباكر، واتجه إلى النجوع والنواحي التي تقع إلى شمال نجع قناوي بحثا عن دقيق يشتريه، فقد نفذت مؤنهم من الدقيق ومن كل شيء يؤكل، وأخذت النساء تبدين الأسف أنهن لم يستطعن أن يقدمن لي غداء أو عشاء، ولما كنت قد تناولت وجبة غداء ونحن على ظهر السفينة «عمدا»، فلم أكن أحس بالجوع، وكان كل ما طلبته هو الشاي أروي به العطش الذي يلاحقني.
لقد كان الماء متوفرا في الزير، لكني خشيت أن أشربه؛ لأن لي مع الماء في النوبة تجربة مرة، ففي أثناء الأبحاث التي كنا نجريها في منطقة سيالة في الشتاء السابق، حدث لي ألم شديد في المعدة، ومرضت وظللت طريحة الفراش خمسة أيام متتالية، وبقيت أعاني الألم حوالي الشهر بعد الرجوع إلى القاهرة، وأعتقد أن ذلك كان بسبب الماء الذي كنت وزوجي نغليه ثم نضع فيه حبات من الحلزون زيادة في تعقيمه، وفي هذه المرة أحضرنا معنا مياها معبأة في زجاجات بلاستيك اشتريناها من أسوان، ولكن كانت كلها موجودة في القارب البعيد.
ورويدا قلت أصوات المتكلمات وأغمض الكل جفونهن مستسلمات للنوم في الجو المفتوح الصحو المنعش، وكنت ما زلت أخشى الحشرات إلا أن تعب اليوم والقلق والخوف والجو الرطيب والصمت المخيم حولي؛ قد ساعدني على الإخلاد للنوم لأول مرة في العراء وبدون غطاء.
لا أستطيع أن أذكر كم مضى من الوقت عندما تنبهت على نباح الكلب الذي كان يشاركنا نومنا، رفعت رأسي فزعة بعض الشيء، فإذا بشبح طويل يقفز بخفة الهر من وراء الحافة الصخرية فحجب عني القمر، وإذا به يصيح بالماتوكية وترد عليه زوجته، وتسكن نبرات صوته المنفعلة، ويهدأ ويتجه نحوي مسلما، لقد حضر الريس محمد بعد عناء يوم كامل فلم يجد القارب المكلف بحراسته، فقطع المسافة الطويلة من الشاطئ إلى النجع يجري ويلهث ويصيح: أين القارب؟ أين القارب؟ وطمأنته زوجته وكل من في النجع أن القارب بخير على البر الشرقي، وأنني كنت في انتظاره ليوصلني إلى هناك، وقال لي إن ذلك غير ممكن الآن، وإن علينا أن نستقل قاربه الشراعي الصغير في الصباح الباكر، وأخذ يقص على زوجته كيف أنه أخذ يتنقل من نجع إلى نجع بحثا عن دقيق يشتريه فلم يجد شيئا، حتى وصل إلى منطقة العمل في السد العالي، حيث استطاع هناك أن يشتري بعض أرغفة من العيش الشمسي، اشتراه من أحد المراكبية من أهل الصعيد، وقدم لزوجته ما اشتراه!
أخذت الزوجة رغيفا وقطعته أجزاء لكل من حولنا، ورفضت أن آخذ نصيبي فلم تكن بي حاجة إليه، وفضلت أن أعطيه للأطفال الجياع الذين كانوا قد استيقظوا مع الجلبة التي أحدثها والدهم، والتفوا حوله في فرح وغبطة ينظرون إليه كما تفعل أفرخ الطير حين تطعمهم أمهاتهم.
ودخل الأب والزوجة والأولاد إلى البيت، وعاد الصمت يطبق على المكان من جديد، ولم أنم لفترة طويلة، أتأمل القمر يشيع أضواء وظلالا تبعث الكثير من الرهبة وتطلق للخيال أعنته، وبدت لي الأسوار العالية بزخارفها في صورة قلاع وقصور خيالية لم يعد يسكنها سوى أشباح الماضي، لقد بعدت بي صورة الأسوار بألوانها البيضاء وظلالها السوداء في ضوء القمر بعدا تاما عن صورة النجع تحت أشعة الشمس القوية، حيث كل شيء محدد وواقعي، لقد جردها ضوء القمر من الواقعية الجامدة وأحالها إلى ألوان متداخلة في عالم خيالي ليس له قوام مادي.
وفي الفجر انتابتني قشعريرة بسيطة، فقد برد الجو إلى أدناه.
وبكى الرضيع، وقامت فاطمة تجهز لنا الشاي والإفطار الذي كان يتكون من طبق به قطع من لحم طائر يسمى محليا «البجة» - لم أعرف ما هو ولم أتابع السؤال عنه - وبيضتين صغيرتين مقليتين في الزيت، وتركت الطعام للريس محمد فهو أحوج إليه مني، رغما عن أنني بدأت أحس بالجوع، إلا أنني منيت النفس بإفطار من مؤنتنا حين نصل البر الشرقي، شربت الشاي المر الذي كنت أجده أكبر نعمة في هذا الجو الجاف.
وأسرع الريس محمد وأنا خلفه إلى قاربه الشراعي الصغير قائلا: إن التبكير قبل طلوع الشمس مهم قبل أن تنشط حركة الهواء والأمواج، ساعدني على الصعود إلى القارب، وبمهارة أدار القارب ودفعه نحو النيل وقفز داخله بخفة لا تتناسب مع سنه الذي تبينته في ضوء النهار، فهو غالبا في حدود الأربعين، بينما زوجته لا تكاد تصل إلى الخامسة والعشرين أو نحوها.
अज्ञात पृष्ठ