ज़की नजीब महमूद के विचारों में एक यात्रा
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
शैलियों
28
فإذا ما تساءلنا: لماذا انقضت على مصر منذ بدأت نهضتها الحديثة حتى الآن مائة وخمسون سنة على الأقل، ومع ذلك لا نستطيع أن ندعي أنها تشربت من ثقافة العصر الجديد ما كنا نتمنى لها أن تتشربه؟! لماذا أصبح المتعلمون في مصر يعدون بعشرات الملايين، ومع ذلك فإن نفورهم من رؤية الحياة بنظرة علمية تلتزم منطق العقل، لا يقل عن نفور أجدادهم الذين غمرتهم موجة الظلام إبان القرون الثلاثة السابقة على بدء النهضة الحديثة ...؟! إذا طرحنا أسئلة كهذه، وجدنا لها جوابا واحدا هو: نقص في تربية العقل وإسراف في إشعال الوجدان.
29
كما لو أن شيئا في تركيبنا الثقافي يوسوس لنا دائما بأن العقل وحده لا يكفي سندا للإنسان في حياته، وأن ظواهر كثيرة تحدث متحدية العقل أن يفسر حدوثها بمنطق العلم، فلا يسع العقل إزاءها إلا أن يقف عاجزا، ومثل هذا الشعور بعجز العقل وقصور العلم، يتملكنا بدرجة قل أن تجد لها نظيرا في شعوب أخرى، وعلى الرغم من يقيني بأهمية الجانب الوجداني في حياتنا فطالما أحسست بواجبي في الإعلاء من شأن العقل، والعقل يتبعه قيام العلم ومناهجه، حتى لو ذهبت في ذلك الإعلاء إلى حد المبالغة، لأحدث نوعا من التوازن في حياتنا بين عقل ووجدان؛ إذ التوازن بينهما مفقود.
30
إن المشكلة الحقيقية التي نصادفها في حياتنا العملية ليست في قبول صيغة «العقل والوجدان»، وإنما في بيان مجاليهما من ناحية، وما يستتبعه الأخذ بهما في دنيانا الواقعية من ناحية أخرى: سل من شئت: هل تحب أن تتابع العصر في عقلانيته وتقنياته؟ يجبك في استعلاء بأن العقلانية وما يترتب عليها هي جزء من ميراثنا الأصيل. لكن قل له: إنها في عصرنا تستتبع عدة أمور؛ منها ألا تلقي بزمامك إلى العاطفة أيا كان نوعها، ومنها أن يتولى العمل من يحسن أداءه، لا من ينتمي إلى أصحاب الجاه بأواصر القربى، ومنها أن يكون الارتكاز كله على الواقع المادي الصارم، ومنها أن نصطنع في حياتنا نظرة علمانية تجعل محورها هنا على هذه الأرض، قبل أن يكون هناك في عام آخر ... قل له هذا، يأخذه الفزع؛ لأنه عندما أعلن أنه من أنصار النظرة العقلية، لم يكن قد تخيل لنفسه أنها نظرة تلد كل هذا النسل العجيب، فهو عقلاني بالاسم، لا بالمضمون والنتائج، أنه يقبل من العصر تقنياته؛ لأنه يريد كسائر عباد الله، أن ينعم بالسيارة والطيارة وأجهزة التدفئة والتبريد، لكن إذا علم أن إدخال هذه الآلات في حياتنا معناه إدخال عادات جديدة، في تلك الحياة، ومعناه إحلال قيم جديدة محل قيم قديمة، أخذه الهلع؛ لأنه في عمق نفسه لا يريد عن قيمه الموروثة بديلا. وهكذا نقع في أزمة حضارية من طراز نادر لأننا في الحقيقة بمثابة من يحيا ثقافتين متعارضتين في وقت واحد: إحداهما خارج النفس والأخرى مدسوسة في حناياها لا تريم، فترى حضارة العصر في البيوت والشوارع والأسواق، بينما تحس حضارة الماضي رابضة خلف الضلوع.
31
والواقع أن علينا أن نسلم بضرورة اللجوء إلى العقل، وإلى العلم الذي هو في حقيقته تجسيد للعقل في رسم السبل الناجحة، ولا يكفي أن نفاخر سائر الدنيا بأننا أصحاب قلوب عامرة بوجدانها، لا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع المعروض للمعالجة مما تنفع أو لا تنفع فيه القلوب ووجدانها: «ومن ثم كانت دعوتي التي ما فتئت أكررها بوجود التفرقة الواضحة بين مجالين: مجال لا يصلح له إلا العقل بكل رصانته وبروده، ومجال آخر من حق المشاعر أن تشتعل فيه ما شاءت لها حرارتها.»
32
علينا أن نبدل ذلك الرأي الشائع فينا الآن، والذي يقول إن العقل وعلوه - وهو لب العصر الذي نعيش فيه - عدو للوجدان ومشاعره، ولما كانت الكثرة الكاثرة منا نصيرة للوجدان فسحقا للعقل ومناهجه.
अज्ञात पृष्ठ