रिफाका तहतावी
رفاعة الطهطاوي: زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي
शैलियों
ولقد كان من حسن حظ رفاعة أنه تتلمذ في الأزهر على الشيخ حسن العطار، فقد كان هذا الشيخ سابقا لعصره، طوف في الأرض، وسافر برا وبحرا، وزار الشام، ووصل في تطوافه إلى الآستانة وأقام بها سنوات، وأفاد من هذه الرحلات واتسع أفق تفكيره، ولما نزلت الحملة الفرنسية بأرض مصر اتصل ببعض علمائها ولقنهم اللغة العربية، كما أخذ عنهم بعض علومهم، وأعجب بما وصل إليه الشعب الفرنسي من رقي وحضارة، وقارن في نفسه بين علوم الفرنسيين التي رأى بعض مظاهرها في دار المجمع، واستمع لبعض أفكارها في حديثه إلى علماء المجمع، وبين علوم المصريين التي درسها ويدرسها في الأزهر، فرأى الفرق كبيرا والبون شاسعا، وتنبأ لهذا البلد بنهضة علمية سريعة ينهج فيها نهج فرنسا، قال: «لا بد أن تتغير حال بلادنا ويتجدد لها من المعارف ما ليس فيها.»
وبدأ هو بنفسه فأقبل على كتب لم تكن تدرس وقتذاك في الأزهر؛ أقبل على كتب التاريخ والجغرافيا، والطب والرياضة، والفلك والأدب، وقرأ الكثير من هذه الكتب وتفهمها. غير أنه يبدو أن نظام التدريس في الأزهر لم يكن ليسمح له أن يدرس بعض هذه الكتب أو ما أفاد منها. وإن سمحت النظم فإن المجموعة التي كانت تحيط به من شيوخ وطلاب ما كانت لتستسيغ هذه العلوم أو تقبلها، بل لعلها كانت تتهم المشتغلين بها بشيء من الزيغ عن الجادة والبعد عن علوم السلف وعما يجب أن يلزمه رجل الدين .
ولكن العطار كان ذا شخصية فذة وطريقة جديدة؛ لهذا لم يلبث أن اختص به نفر من تلاميذه الممتازين، فقربهم إليه، وأقرأهم ما كان يقرأ، ورغبهم في هذه العلوم الجديدة فأقبلوا عليها. فلما بدأ محمد علي نهضته واحتاج إلى بعض مشايخ الأزهر للتدريس في مدارسه الجديدة أو لتصحيح الكتب المترجمة، كان تلاميذ العطار أمثال: التونسي، والدسوقي، والطنطاوي ... إلخ خير من ندب، وخير من قام بالواجب الجديد في العهد الجديد.
وكان رفاعة أقرب تلاميذ العطار وأحبهم إليه. وقد فرح الأستاذ بنبوغ تلميذه في التدريس بعد تخرجه فلبث يشمله برعايته وحسن توجيهه. فلما طلب إليه محمد علي أن يختار له إماما لإحدى فرق الجيش الجديد، أسرع فرشح رفاعة لهذا المنصب. وعين الشيخ رفاعة في سنة 1240ه / 1824م واعظا وإماما في آلاي حسن بك المناسترلي، ثم انتقل إلى آلاي أحمد بك المنكلي.
وفي سنة 1242ه/1826م أوفدت أول بعثة كبيرة إلى فرنسا. وهنا أيضا طلب محمد علي إلى العطار أن ينتخب من علماء الأزهر إماما للبعثة «يرى فيه الأهلية واللياقة، فاختار الشيخ رفاعة لتلك الوظيفة.»
مقارنات وآمال
كانت نصيحة العطار لرفاعة أن يسجل مشاهداته في رحلته في كتاب خاص، وقد استجاب التلميذ لنصيحة أستاذه، فبدأ منذ ركوبه السفينة في الإسكندرية يفتح عينيه وأذنيه ليرى كل شيء ويسمع كل شيء. وكان كلما رأى جديدا أو سمع جديدا، انطوى على نفسه يفكر فيما رأى وفيما سمع، ثم لا يلبث أن يستحضر في مخيلته الصورة المقابلة - لما رأى أو سمع - في وطنه، أو في ديار الإسلام عامة، ثم يترك نفسه على سجيتها يلقي النظرة بعد النظرة على الصورتين: الصورة القديمة التي عرفها في وطنه أو في ديار الإسلام، والصورة الجديدة التي رآها في الغرب أو في ديار النصرانية، فإذا ملأ نظره من الصورتين انقلب يحلل ويقارن؛ لأنه كان يرى دائما أن الصورة القديمة باهتة كريهة وأن الصورة الجديدة زاهية حية محبوبة.
وقد حملته هذه المقارنات إلى عالم من الآمال العريضة، فهو كلما رأى خيرا تمناه لبلده ولمواطنيه. ورحلته إلى باريس معرض غني بهذه الصور وهذه المقارنات والآمال.
ترك رفاعة مصر والعلم فيها مقصور على رجال الدين من خريجي الأزهر - وهو واحد منهم - ولكنه ألفى العلم في باريس ميادين واسعة، له فروع كثيرة، وللفروع فروع، وهكذا ... وقد تخصص كل عالم في دراسة فرع من هذه الفروع فوهبه كل وقته وجهده فأنتج فيه وابتكر. ووجد أن علماء الدين ليست لهم المكانة الأولى كما هي الحال في مصر أو في بلدان العالم الإسلامي، فرسم لمواطنيه الصورة الجديدة للعلم والعلماء وكأنه يوحي إليهم في كل سطر من السطور بأن هذه هي الطريقة المثلى والصورة الحقة للعلم والعلماء. وفي رأيي أن محاولتنا وصف هذه الصور التي رسمها رفاعة قد تؤدي إلى تشويه معالمها. والخير كل الخير أن ننقل للقارئ بعض هذه الصور كما رسمها رفاعة بقلمه. قال مقارنا بين العلم والعلماء في مصر وفي باريس: «وأما علماؤهم فإنهم منزع آخر، لتعلمهم تعلما تاما عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص، وكشفهم كثيرا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم، وليس عندهم كل مدرس عالما، ولا كل مؤلف علامة، بل لا بد من كونه بتلك الأوصاف، ولا بد له من درجات معلومة، فلا يطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء. ولا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضا. وأما ما يطلق عليه اسم العلماء فهو من له معرفة في العلوم العقلية، ومعرفة العلماء في فروع الشريعة النصرانية هينة جدا، فإذا قيل في فرنسا: «هذا الإنسان عالم.» لا يفهم منه أنه يعرف في دينه، بل إنه يعرف علما من العلوم الأخر. وسيظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم؛ وبذلك تعرف خلو بلادنا من كثير منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفاس، ومدارس بخارى ، ونحو ذلك، كلها زاهرة بالعلوم النقلية، وبعض العقلية: كعلوم العربية ، والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية. والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم، فهي دائما في الزيادة، فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئا جديدا، فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات ...»
وقال يصف انتشار الثقافة العامة بين أفراد الشعب الفرنسي كبارا وصغارا: «ثم إن الفرنسيس يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، ويتشوفون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالا لسائر الأشياء، فليس غريبا عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة. وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون الغاية من صغرهم ... فإنك قد تخاطب الصغير الذي خرج من سن الطفولية عن رأيه في كذا وكذا، فيجيبك، بدلا عن قوله «لا أعرف»: «أصل هذا الشيء ما معناه الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ونحو ذلك، فأولادهم دائما متأهلون للتعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق »...»
अज्ञात पृष्ठ