ولقد ابتدع ڤاجنر وسيلة جديدة للربط بين مختلف الأجزاء المتشابهة في الدراما؛ إذ كان لزاما على الموسيقى أن تبرز كل شخصية من الشخصيات على نحو مستقل وتجعل لها طبيعتها الخاصة المنفصلة عما عداها. وبينما كانت الأوبرا القديمة مفككة مهلهلة بقطعها المنفصلة التي لا ترتبط بالجموع إلا ربطا متكلفا، نرى ڤاجنر يهدف قبل كل شيء إلى رسم خطوط الشخصيات والحوادث متسقة لا يعوق وحدتها شيء. وهكذا ابتدع ڤاجنر طريقة التعبير باللحن المميز
Leitmotiv ؛ فكما أن لكل شخصية ولكل عاطفة طابعا خاصا يسعى الشعر إلى إبرازه، فكذلك ترمي الموسيقى عنده إلى إيضاح تلك الصفة الأساسية في كل موقف، بحيث يمكن بناء هيكل عام للدراما من بضعة «الألحان المميزة» الرئيسية التي تسودها، والتي تكفي لإعطاء مجمل معبر عن العمل الفني بأسره. وما دام هدف ڤاجنر هو التعبير عن الشخصية أو العاطفة التي تصورها الدراما تعبيرا صحيحا ؛ فقد عمل على أن يكرر تلك الألحان الرئيسية كلما عرض ذلك الشخص أو أثيرت تلك العاطفة، وبهذا كفل للدراما وحدتها وتماسكها، ومزج بين الشعر والموسيقى مزجا عبقريا يهدف في النهاية إلى تحقيق فكرته الكبرى، وهي التأثير على أكبر قدر ممكن من الملكات النفسية، والإهابة بعقل الإنسان وقلبه وخياله عن طريق الفن الدرامي المتكامل.
خاتمة
من أخص صفات العباقرة تضارب الأحكام عليهم في عصورهم؛ فترى العبقري يلقى من البعض أعظم تقدير، ومن البعض الآخر أعنف نقد، وتظل الحرب سجالا بين مؤيديه ومعارضيه خلال حياته، ويظل صدى ذلك الخلاف فترة ما بعد وفاته، ثم تخفت أصوات الأعداء رويدا رويدا، حتى يأتي يوم يعترف الجميع بمكانته، ويشهد الزمان - وهو أصدق الشهود - بعبقريته. وفي وسعنا أن نقول إن الشخصيات التي تلقى خلال حياتها كل ما تحلم به من تقدير، لا تترك في التاريخ - إلا في أحوال نادرة - نفس الأثر الذي تتركه تلك التي يشتد حولها الخلاف في بادئ الأمر؛ إذ إن الإنسانية إذا أسرعت بالترحيب، كان ذلك دليلا على سهولة هضمها لما ترحب به، وعلى حسن استعدادها لتلقيه. أما إذا قاومت ولم تعترف بالفضل الكامل إلا بعد عهد بعيد؛ ففي ذلك برهان على أن الكشف كان جديدا بحق، وعلى أن في الأمر ثورة وانقلابا لا تتهيأ لهما الأذهان إلا بعد مضي وقت كاف للاستعداد والتمهيد والتمثل التام في النهاية.
ولقد كان ڤاجنر عبقريا صادقا بهذا المعنى. فليس لنا أن نغتر بهذا الترحيب والتقدير الهائل الذي لقيه في نهاية حياته؛ إذ إنه لم يصل إليه إلا بعد أن قاوم وناضل، ونازل خصوما أقوياء عنيدين، بل إن الحملة عليه لم تفتر لحظة واحدة حتى بعد أن حقق أمنيته الكبرى في بايرويت، فظلت شخصيته الغامضة تصادق من النقاد من ينزل بها إلى الحضيض، ومن المعجبين من يرتفع بها إلى مرتبة التقديس، ودام هذا الخلاف وقتا غير قصير، ولا زلنا نشهد له إلى اليوم آثارا، وإن كانت آثارا واهية خائرة لا تقوى على الصمود أمام تيار الإعجاب الجارف.
وقد أثارت آراء ڤاجنر النظرية نقدا عنيفا؛ فهو في دراماته يدعو إلى زهد واستسلام لا يعبران إلا عن نفس مغالطة تخدع نفسها وتخدع الناس. وكيف يدعو إلى الزهد رجل لم يعرف الزهد في حياته قط؟! وكيف يدعو إلى الموت في سبيل الحب رجل حفلت حياته بمغامرات لم تكن كلها «شريفة» أو «بريئة»؟! فإن كان ڤاجنر يعد ذلك الزهد فضيلة، فلا شك أن حياته كانت تفتقر تماما إلى تلك الفضيلة. أما إذا كان يراه فكرة خليقة بأن تتبع، فليعلم أن عهود الاستسلام قد انقضت إلى غير رجعة، وأنه هو ذاته يتناقض مع نفسه تناقضا صريحا حين يدعو إلى الرجوع إلى عهد الأساطير الحية الصادقة؛ إذ إن الأسطورة تعبر عن الغرائز الصريحة والمشاعر الحقيقية للإنسانية ولا تعرف للزهد أو العزوف معنى. ولسنا نملك لهذا النقد دفعا؛ إذ إن ڤاجنر كان بالفعل ذا حساسية دينية لا يمكن إنكارها، ولا تؤثر فيها فترة الإلحاد القصيرة التي مر بها. ولكن المشكلة الحقيقية في نظرنا ليست في محتوى أفكاره، بل في طريقة التعبير عنها، فليس من المفروض في الفنان أن يجيد الدفاع عن نفسه نظريا، وأن يشرح آراءه شرحا فلسفيا مقنعا، وليس من المفروض أن تروقنا تلك الآراء إن وجدت؛ وإنما يكون الفنان قد أدى رسالته إذا عرف كيف يخرج أفكاره إلى حيز الوجود، ويعبر عنها على نحو ينفذ به مباشرة إلى أعماق نفوسنا. ومن الظلم حقا أن يحكم الناس على ڤاجنر الفنان من خلال ڤاجنر المفكر؛ إذ إن الثاني لم يكن إلا ظلا معتما للأول ، وكما يحدث في كل تجربة فنية أصيلة، كان العيان يسبق التحليل، والثورة الفنية التلقائية تسبق الانعكاس الفكري المتأخر - فليكن حكمنا الصحيح عليه مستمدا من نظرتنا إلى فنه وحده.
ويبدو أن ذلك الجانب النظري في تفكير ڤاجنر قد أساء إليه بقدر ما أعانه على شرح وجهة نظره للعالم؛ فقد رأينا ڤاجنر يتحدث بلسان الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين، ويتكلم عن الثورة والنهضة والبعث، وعن محنة الإنسان الحديث، ووسائل تقويم المجتمع وإصلاحه. ثم رأيناه يؤكد أن في فنه وسيلة ذلك الإصلاح. وهنا كان الخطأ؛ فقد يجوز القول إن الإصلاح إذا تناول كل مرافق المجتمع، كان في وسع الفن أن يساهم بدوره في هذه الحركة الشاملة ويكون له منها نصيب. أما إذا عد الفن وحده وسيلة لإصلاح شامل، وإذا كان المجتمع يسير في طريق والفن يسير في طريق آخر محاولا اجتذاب المجتمع إليه - كما هو الحال في نزعة ڤاجنر الزاهدة الأخيرة، التي تناقضت تماما مع اتجاه المجتمع إلى الواقعية في عصرنا الأخير - فعندئذ تغدو محاولة الفن الخروج عن نطاقه عقيمة في أساسها، ويصبح علينا أن نكتفي بتأمله في ذاته فحسب، ونحكم عليه تبعا لقيمته الكامنة من حيث هو عمل فني، لا من حيث هو محاولة لبناء الوعي الاجتماعي على أساس جديد، وذلك هو مصير إنتاج ڤاجنر الفني في النهاية. •••
وقد تعرضت موسيقى ڤاجنر لنقد أشد وأعنف. ولقد شاء سوء حظه أن يصف اتجاهه الفني في كتاب عنوانه «العمل الفني والمستقبل»، فسميت موسيقاه باسم «موسيقى المستقبل
Zukunftmusik » ووجهت إلى هذا الاسم سخرية مريرة، حتى ظهرت في الصحف صورة امرأة تبكي وبجانبها أخرى تواسيها وتسألها: هل أصاب طفلك مكروه حتى تبكي أمام مهده؟ فتجيب الأولى باكية: أجل ... لقد استمعت بالأمس إلى السيد ڤاجنر ... أليس من المؤلم أن يستمع المرء إلى الموسيقى التي يدخرها المستقبل لآذان هذا الصغير المسكين؟! ...
ولقد انصب النقد الأكبر على افتقار موسيقى ڤاجنر إلى اللحن
अज्ञात पृष्ठ