Revelation of the Noble Qur'an and Its Preservation During the Prophet's Time
نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
प्रकाशक
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
शैलियों
المقدمة
الحمد لله المنان، الذي أكرمنا بالقرآن، فأنزله على عبده المصطفى ولم يجعل له عِوجًا نزله فرقانًا وتبيانًا لكل شيء فقد قال في محكم التنزيل ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان: ١) وقال: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: ٤٤)، والصلاة والسلام على من أرسله الله تعالى بالقرآن رحمةً للعالمين، فأخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان واليقين، فعَلَّم القرآن، وبَلَّغَ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلوات الله عليه وعلى أصحابه الكرام الذين لازموه واستفادوا من مدرسته فاعتنوا به كعناية النبي ﷺ له، وعلى آله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله امتن على نبيه ﷺ بأن أنزل عليه هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد وفيه نبأ ما كان قبلَكم، وخبر ما بعدكم، وحُكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخْلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سَمِعَته حتى قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قرآنًا عجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ (الجن:١-٢)، من قال
1 / 1
به صُدِّق، ومن عمِل به أُجِر، ومن حكم به عدَل، ومن دعا إليه هدى إلى صراطٍ مستقيم١ ومنذ نزوله اعتنى النبي ﷺ به تلاوةً وتدبرًا، تعليمًا وتربيةً، سلوكًا ومنهاجًا.ويسرني ويشرفني في هذا المقام أن أشارك في الندوة التي تقوم بعقدها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلةً في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بعنوان (عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه)، وقد تضمن العنوان بحوثًا كثيرة، وكان نصيبي من تلك البحوث هو نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد النبي ﷺ، ويتكون البحث من مقدمة وفصلين وخاتمة.
المقدمة وأذكر فيها خُطة البحث.
الفصل الأول عن نزول القرآن على المصطفى ﵊ وفيه ثلاثة مباحث:-
* المبحث الأول: نزول القرآن الكريم ويشتمل على:-
١. نزوله جملةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا والحكمة منه.
٢. نزوله مفرقًا على النبي ﷺ.
* المبحث الثاني: حِكَم نزول القرآن مفرقًا.
* المبحث الثالث: نزول القرآن على سبعة أحرف، ويشتمل على:
١. طرف من الروايات الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف.
_________
١ أخرجه الترمذي من طريق الحارث الأعور، وقال هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال، انظر الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن ٥/ ١٧٢، والحديث ضعيف.
1 / 2
١. حكم نزول القرآن على سبعة أحرف.
٢. المراد بالأحرف السبعة.
الفصل الثاني عن العناية بالقرآن في عهد النبي ﷺ وفيه ثلاثة مباحث:-
المبحث الأول: العناية بالقرآن الكريم حفظًا.
المبحث الثاني: العناية بالقرآن الكريم كتابةً.
المبحث الثالث: العناية بالقرآن الكريم تطبيقًا.
خاتمة، وفيها أهم التوصيات والنتائج التي توصلت إليها، وملحق بالبحث الفهارس العامة وهي على النحو الآتي:-
فهرس المصادر والمراجع.
فهرس الموضوعات.
وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا جميعًا إلى ما يحبه ويرضاه وأن يرزقنا الإخلاص في القول والفعل وأن ينفع بهذا البحث الكاتب والقارئ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 3
بين يدي الموضوع
أنزل الله ﵎ القرآن على المصطفى ﵊ لهداية البشرية إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم فقال: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ (الإسراء:٩)،وقال: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (إبراهيم:١)، وبين لهم في إنزاله أن من اتبع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فإنه لا يَضِل ولا يشقى ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ (طه:١٢٣)، وأن من أعرض عنهما فقد حصل له الشقاء في الدنيا والآخرة فقال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ (طه:١٢٤-١٢٦) .
وأول ما نزل على النبي ﷺ آيات من سورة (اقرأ)، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَ تْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جاءه الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى
1 / 4
بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ١.
ولو تأملنا النصوص القرآنية الواردة في نزول القرآن لوجدناها على قسمين، فقسم منها فيه إشعار وبيان بأن القرآن نزل جملةً، وقسم منها فيه إشعار وبيان بأن القرآن نزل مفرقًا على النبي ﷺ، ولذلك جعلنا الحديث في الفصل الأول عن نزول القرآن على المصطفى ﵊ وفيه ثلاثة مباحث:-
_________
١ انظر البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ ص١ ٣.
1 / 5
الفصل الأول: نزول القرآن الكريم
المبحث الأول: نزول القرآن الكريم
أولًا: نزوله جملةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا والحكمة منه:
...
المبحث الأول: نزول القرآن الكريم
ويشتمل على:-
أولًا: نزوله جملةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا والحكمة منه:
فقد أنزل الله ﵎ القرآن جملةً واحدة في شهر رمضان المبارك فقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة:١٨٥)، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر: ١)، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾ (الدخان: ٣)، ولا تعارض بين هذه الآيات الثلاث لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر، وليلة القدر في شهر رمضان المبارك، إنما يتعارض ظاهرها مع الآيات الأخرى التي تفيد بأن القرآن نزل مفرقًا مثل قوله تعالى: ﴿وقرآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تنزيلًا﴾ (الإسراء: ١٠٦)، ويتعارض كذلك مع الواقع العملي لنزول القرآن على النبي ﷺ ١. فمنها:-
١) ما رواه ابن عباس ﵄ قال: أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئًا أوحاه أو أن يحدث منه في الأرض شيئًا أحدثه ٢.
_________
١ انظر مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ٨٦.
٢ أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير ٢/٢٢٢، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وانظر الروايات في الدر المنثور ١/٤٥٦، ٤٥٧.
1 / 6
٢) وما رواه ابن عباس ﵄ في قوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر، قال: أنزل القرآن جملةً واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله ﷺ بعضه في إثر بعض، قال: وقالوا: ﴿لولا نًزِّل ُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ ١.
٣) وما رواه ابن عباس ﵄ أنه قال أنزل القرآن جملةً واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا، ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ ٢.
٤) وأخرجه ابن أبي حاتم٣ من هذا الوجه وفي آخره: فكان المشركون إذا أحدثوا شيئًا أحدث الله لهم جوابًا ٤.
٥) وما رواه ابن عباس ﵄ أنه قال: فُصِل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل ﵇ ينزله على النبي ﵌ ويرتله ترتيلًا ٥.
_________
١ أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير ٢/٢٢٢، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والآية رقم ٣٢ من سورة الفرقان.
٢ أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير ٢/٢٢٢، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وانظر الإتقان ١/١١٧، والآية ١٠٦ من سورة الإسراء.
٣ ترجمت في هذه الرسالة للأعلام غير المشهورين والمعروفين ترجمة مختصرة، وابن أبي حاتم هو عبد الرحمن بن محمد بن أبي حاتم الرازي، أبو محمد حافظ للحديث، من كبار المحدثين، له كتب كثيرة منها كتاب في الجرح والتعديل، وكتاب في التفسير يقع في عدة مجلدات وزع على طلاب جامعة أم القرى لتحقيقها في مرحلتي الماجستير والدكتوراة، الأعلام للزركلي ٣/٣٢٤.
٤ انظر الإتقان ١/١١٧.
٥ أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير ٢/٢٢٢، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وانظر الإتقان ١/١١٧، وقال السيوطي في الإتقان: أسانيدها كلها صحيحة.
1 / 7
٦) وما رواه ابن عباس ﵄ أنه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين ثم تلا هذه الآية: ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم﴾، قال: نزل متفرقًا ١.
٧) وما رواه ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى السماء جملةً واحدة ثم أنزل نجومًا ٢.
٨) وما رواه ابن عباس في قوله: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ (القدر: ١) أنه قال: أنزل القرآن جملةً واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ونزله جبريل على محمد ﷺ بجواب كلام العباد وأعمالهم ٣.
٩) وما روي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ (البقرة: ١٨٥)، وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر: ١) . وهذا أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي محرم، وفي صفر، وشهر ربيع فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملةً واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلًا٤ في الشهور والأيام ٥.
_________
١ أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الواقعة ٤/٤٧٧ وقال عقبه هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
٢ قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات ٧/١٤٠.، وقال السيوطي: إسناده لا بأس به الإتقان ١/١١٧.
٣ قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح وفي إسناد الطبراني عمرو بن عبد الغفار وهو ضعيف.
٤ رَسَلًا: أي فرقًا وعلى مواقع النجوم أي على مثل مساقطها، يريد أنه أنزل مفرقًا يتلو بعضُه بعضًا على تُؤَدة ورفق، انظر الإتقان ١/١١٧، ١١٨، النهاية في غريب الحديث ٢/٢٢٢.
٥ انظر الإتقان ١/١١٧.
1 / 8
وبنظرة عامة للآثار السابقة يتضح لنا أن للقرآن الكريم نزولين، وهذا يدل على أن القرآن نزل في رمضان وفي غيره، وعلى أن القرآن الكريم نزل جملةً واحدة ونزل مفرقًا، وأن المراد بنزوله في ليلة واحدة في شهر رمضان هو نزوله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا كما جاءت بذلك الآثار السابقة التي ذكرناها، وأن المراد بنزوله مفرقًا هو نزوله من بيت العزة من السماء الدنيا على المصطفى ﷺ حسب الوقائع والحوادث وغير ذلك، وإليكم مذاهب العلماء في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة ثم نزوله من بيت العِزة
على المصطفى عليه الصلاة والسلام١:-
المذهب الأول:-
مذهب جمهور العلماء وهو قول ابن عباس أن القرآن الكريم نزل جملةً واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجمًا على نبينا محمد ﷺ في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته ﷺ بمكة بعد البعثة، وهذا هو المذهب الذي دلت عليه الأخبار الصحيحة وعليه جمهور العلماء، ورجحه ابن حجر حيث قال في شرح البخاري: وهو الصحيح المعتمد ٢، وهو القول الذي ينبغي أن نصير إليه جمعًا بين الأدلة الموجودة في
_________
١ انظر التذكار في أفضل الأذكار ٢٤، ٢٥.
٢ الإتقان ١/١١٧، ١١٨، البرهان في علوم القرآن ١/٢٢٨، وانظر كلام ابن حجر في فتح الباري، كتاب فضائل القرآن باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل ٩/٤.
1 / 9
هذا الباب، وقد ورد عن ابن عباس بطرق متعددة، وحكمه حكم المرفوع إلى النبي ﷺ لأنه لا مجال للرأي فيه.
المذهب الثاني:
أنه نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، وقيل في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة، وقيل في خمس وعشرين ليلة قدر من خمس وعشرين سنة، في كل ليلة منها ما يقدر الله سبحانه إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجمًا في جميع السنة على رسول الله ﷺ.
المذهب الثالث:
أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجمًا في أوقات مختلفة من سائر الأوقات وبه قال الشعبي ١.
الحكمة من نزول القرآن جملة:
أولًا: تفخيم شأن القرآن وشأن من سينزل إليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليها لننزله عليها، وهي الأمة الإسلامية، وفي هذا تنويه بشأن المنزل والمنزل عليه، والمنزل إليهم وهم بنو آدم ففيه تعظيم شأنهم عند الملائكة
_________
١ الإتقان ١/١١٧، ١١٨، البرهان في علوم القرآن ١/٢٢٨، والشعبي هو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه، من رجال الحديث الثقات، الأعلام ٣/٢٥١.
1 / 10
وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم ١، ثم إن وضعه في مكان يسمى بيت العزة يدل على إعزازه وتكريمه.
ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجمًا بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين.
ثانيًا: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية السابقة وذلك بإنزاله مرتين، مرة جملة ومرة مفرقًا بخلاف الكتب السماوية السابقة فقد كانت تنزل جملةً مرة واحدة، وبذلك شارك القرآن الكتب السماوية في الأولى وانفرد في الفضل عليها بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا محمد ﷺ على سائر الأنبياء السابقين ٢.
ثانيًا: نزوله مفرقًا على النبي ﷺ:دل القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أن القرآن الكريم كان ينزل على النبي ﷺ مفرقًا إلى أجزاء كل جزء منها يسمى نجمًا، فقد صح أن الآيات العشر المتضمنة لقصة الإفك نزلت جملة، وأن عشر آيات من أول سورة المؤمنين نزلت جملة، وورد أيضًا أنه نزل قوله تعالى: ﴿وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ (الضحى:١-٢) إلى قوله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ (الضحى:٥) ثم نزل
_________
١ انظر البرهان ١/٢٣٠،٢٣١، الإتقان ١/١١٩ نقلًا عن أبي شامة في المرشد العزيز، البيان في مباحث من علوم القرآن ص٥٢، ٥٣، مناهل العرفان ١/٤٦، ٤٧، المدخل لدراسة القرآن الكريم ٥٢، ٥٣.
٢ انظر المراجع السابقة.
1 / 11
باقي السورة بعد ذلك، وبالجملة فكون القرآن لم ينزل جملة وإنما نزل مفرقًا حسب الوقائع والحوادث مما لم ينازع فيه أحد.
وقد اختص القرآن الكريم من بين الكتب السماوية بأنه نزل مفرقًا كما دل على ذلك القرآن والسنة: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ (الإسراء: ١٠٦)، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ (الفرقان: ٣٢)، وكما ذكر العلماء في نزول القرآن الكريم أن أول ما نزل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (اقرأ: ١)، أما الكتب السماوية السابقة فإنها نزلت جملةً واحدة كما هو المشهور بين العلماء وعلى ألسنتهم حتى كاد يكون إجماعًا لما ذكرناه ولما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير١ عن ابن عباس قال: قالت اليهود: يا أبا القاسم لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى فنزلت وأخرجه من وجه آخر بلفظ (قال المشركون)، قال السيوطي٢: فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وإنما هو على تقدير ثبوت قول الكفار، قلت: سكوته تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعدوله إلى بيان حكمته دليل على صحته، ولو كانت الكتب كلها نزلت مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقين.
_________
١ سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي أبو عبد الله، تابعي، كان أعلم زمانه على الإطلاق، قتله الحجاج بواسط، الأعلام ٣/٩٣.
٢ عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيري السيوطي، جلال الدين، إمام حافظ مؤرخ أديب، له نحو ستمائة مصنف، الأعلام ٣/٣٠١.
1 / 12
ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث التي تفيد بأن التوراة نزلت جملة ومنها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج١ قال جاءتهم التوراة جملة واحدة، فكبر عليهم، فأبوا أن يأخذوها حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوها عند ذلك ٢
إضافة إلى ما سبق فإنه لو لاحظنا وتأملنا في الآيات القرآنية لوجدنا أن التعبير كان بلفظ التنزيل والإنزال، وعلماء اللغة يفرقون بين الإنزال والتنزيل فالتنزيل لما نزل مفرقًا والإنزال أعم، ولذلك قال الراغب٣ في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر:١)، وإنما خُص لفظ الإنزال دون التنزيل لما روي أن القرآن نزل دفعةً واحدة إلى سماء الدنيا ثم نزل نجمًا فنجمًا ٤.
_________
١ ثابت بن الحجاج الكلابي الجزري الرقي، من أتباع التابعين، روى عن الصحابة، تهذيب التهذيب ٢/٤.
٢ انظر الإتقان للسيوطي ١/١٢٢، ١٢٣.
٣ الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم، أديب من العلماء الحكماء، له كتب كثيرة منها المفردات في غريب القرآن، الأعلام ٢/٢٥٥.
٤ المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني ٤٨٨، ٤٨٩.
1 / 13
المبحث الثاني عن حِكَم نزول القرآن مفرقًا:-
لنزول القرآن مفرقًا على النبي ﷺ حِكَمٌ كثيرة تُعرف من الآيتين السابقتين وتُدرك بالعقل والاجتهاد أذكرها فيما يلي:-
أولا: تثبيت فؤاد النبي ﷺ وتطييب قلبه وخاطره، وإمداده بأسباب القوة والمجابهة أمام حملات المشركين ودسائس المنافقين، فتجديد الوحي يومًا بعد يوم وحالًا بعد حال يمثل لونًا من ألوان الرعاية الإلهية التي تمده بأسباب الثبات والْمُضِيِّ فيما اختاره الله تعالى له ١، وقد تولى الله الإجابة عن المشركين الذين قالوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ (الفرقان:٣٢) ﴿كذلك﴾، أي أنزلناه كذلك مفرقًا – ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، وكان للنزول المفرق أبلغ الأثر في مواساته وإزاحة معاني الغربة والضعف عن نفسه، وقد ثبت الله فؤاد المصطفى ﵊ في أشد المواقف وأحرجها، فانظر إلى قول أبي بكر فيما حكاه عنه الله تعالى: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ (التوبة: ٤٠)، وما ذلك إلا من قوة يقينه ووثوقه بنصر الله تعالى مع ما يحيط به من الأعداء.
وهذه الحكمة من أجل الْحِكَم وأعظمها. ويندرج تحت تثبيت قلب النبي ﷺ أشياء كثيرة منها:-
_________
١ انظر علوم القرآن، مدخل إلى تفسير القرآن وبيان إعجازه ص٧٤، ٧٥.
1 / 14
* تسليته ﷺ بكثرة نزول الوحي عليه حتى لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلًا، ومما لا شك فيه أن كثرة نزول الوحي أقوى بالقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، فيحصل للنبي ﷺ الأُنْس والارتباط بالله تعالى يقول الإمام أبو شامة١ (فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى بالقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل) ٢.
ومنها تسليته ﷺ ببيان ما يثبت قلبه على الحق ويشحذ عزمه للمضي قدمًا في طريق دعوته لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه، فما حصل للنبي محمد ﷺ قد حصل للأنبياء السابقين ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (الكهف:٦)، ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ (الأنعام: ٣٣-٣٤)، وكلما اشتد أذى المشركين للرسول ﷺ نزلت الآيات لطمأنة الرسول ﷺ وتسليته، وتهديد المشركين والمكذبين بأن الله يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك أشد الجزاء ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا
_________
١ أبو شامة هو العلامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي أبو القاسم شهاب الدين، فقيه شافعي له كتاب المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز، وكتب أخرى، توفي سنة ٦٦٥هـ، انظر الأعلام /٢٩٩.
٢ انظر البرهان ١/٢٣١، الإتقان ١/١٢١.
1 / 15
نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ (يس:٧٦) ﴿وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ (يونس:٦٥) ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ (المزمل:١٠) ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: ٣٥) ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ (النحل: ١٢٧) ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (هود:١١٥)، فكان لاتصال الوحي بالرسول ﷺ وتتابع نزول الآيات عليه تسليةً له بعد تسلية تشد من أزره وتحمله على الصبر والمصابرة، وكان لذلك أبلغ الأثر في مواساته والتخفيف عنه، ولو أن القرآن نزل جملةً واحدة لكان لانقطاع الوحي بعد ذلك أثر كبير في استشعار الوحشة والغربة.
* ومنها تسليته ﷺ بذكر قصص الأنبياء السابقين ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ (هود:١٢٠)، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (يوسف: ١١١)، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف:٣٥) .
ثانيًا: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم من قصص الأنبياء السابقين ومعاناتهم من أقوامهم وكيف أن الغلبة والنصر والأجر والتأييد والتمكين كانت لهم ولعباد الله الصالحين في نهاية الأمر، وكانت الهزيمة لأعداء الله المخالفين، والآيات في هذا المعنى كثيرة، واستمع إلى قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾
1 / 16
(البقرة:٢١٤) .
وقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور:٥٥) .
وقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران:١٤٢) .
وقوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت:٢) .
ثالثًا: تيسير حفظه وفهمه على الرسول ﷺ، فإنه كان يتعجل الأخذ من الوحي، ولقد بلغ من حرص النبي ﷺ أنه كان لا ينتظر حتى يفرغ جبريل من قراءته بل كان يتعجل بالقراءة فأنزل الله تعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: ١٦-١٩)، فتكفل الله لنبيه الحفظ والفهم.
رابعًا:تيسير حفظه وفهمه وتدبر معانيه، ومعرفة أحكامه وحِكَمه على الأمة، وكما هو معلوم أن القرآن الكريم نزل على أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: ٢) ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ (الأعراف: ١٥٧)، وكانت ظروف المسلمين في مكة المكرمة صعبة حيث كانوا مضطهدين من كفار قريش مستضعفين لقلة عددهم ليس لديهم من قوة السلطان ما يحميهم
1 / 17
من عدوهم ولا من فراغ الوقت وهدوء البال ما يمكنهم من الانقطاع لحفظ ذلك الكتاب وعندما اضطروا للهجرة قام اليهود والمنافقون في المدينة بمناوأتهم، ولو نزل جملةً واحدة لوجدت هذه الأمة الأمية-مع ما ينتابها من ظروف صعبة- صعوبةً في حفظ القرآن الكريم فكان من رحمة الله ﷿ أن نزل القرآن مفرقًا لكي يسهل حفظه وفهمه، فكانت الآيات تنزل على النبي محمد ﷺ وكان النبي يعلمها أصحابه فكلما نزلت الآية أو الآيات حفظها الصحابة، وتدبروا معانيها، ووقفوا عند أحكامها ١، بل صار الصحابة والتابعون يعلمون من بعدهم بنفس الطريقة فصارت سنة متبعة فعن أبي العالية الرِّياحي٢أنه قال (تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن رسول الله ﷺ كان يأخذه خمسًا خمسًا) ٣.
وقال عبد الله بن مسعود (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) ٤.
وفي بعض الروايات أن أبا عبد الرحمن السلمي٥قال حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا يستقرئون من النبي ﷺ، وكانوا
_________
١ المدخل لدراسة القرآن الكريم ٧١، مباحث في علوم القرآن ٩٥.
٢ اسمه رُفَيْع بن مهران، من رواة الحديث، ثقة كثير الإرسال، التقريب / ٢١٠.
٣ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية ١٠/٤٦١، وأخرجه أبو نعيم في الحلية ٢/٢١٩، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ١٩٥٩.
٤ المصنف ٣/٣٨٠.
٥ هو عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعَة الكوفي المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، التقريب / ٢٩٩.
1 / 18
إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا ١.
ثم إن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة للكُتَّاب على ندرتهم، فلو أنزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه وكتابته، فاقتضت حكمة الله العليا أن ينزله إليهم مفرقًا ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره ٢.
خامسًا: ترتيل القرآن الكريم كما ينبغي بالصورة الصحيحة التي نزل عليها ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ ترتيلًا﴾ (المزمل:٤) فالرسول ﷺ كان يتلقى القرآن من الوحي عن رب العزة والجلال، فنحن بقراءتنا وترتيلنا إن أحكمناه إنما نتبع ما علم الله نبيه من ترتيل محكم جاء به التنزيل وأُمِر به النبي ﷺ، وما كان تعليم هذا الترتيل الْمُنَزَّل من عند الله تعالى ليتوافر إذا لم ينزل القرآن منجمًا، فلو نزل جملة واحدة ما تمكن النبي ﵊ من تعلم الترتيل، ولو علمه الله تعالى بغير تنجيمه ما كان في الإمكان أن يعلمه قومه وهم حملته إلى الأجيال من بعده ٣.
سادسًا: من حِكَم هذا التنجيم بصورة عامة رسم صورة المجتمع الآخَر أو الفئات الثانية من المشركين والمنافقين، وفضح أساليبهم ونواياهم ومفاجأتهم بحقيقة ما يقولون ويُبَيِّتُون ويمكرون ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ
_________
١ انظر المصنف للصنعاني ٣/٣٨٠، والمصنف لابن أبي شيبة، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية ١٠/٤٦٠، وقال الهيثمي في المجمع، باب السؤال عن الفقه، رواه أحمد وفيه عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره. مجمع الزوائد ١/١٦٥ وأخرجه الصنعاني في المصنف بنحوه، كتاب فضائل القرآن، باب تعليم القرآن وفضله ٣/٣٨٠.
٢ مناهل العرفان ١/٥٦.
٣ انظر القرآن المعجزة الكبرى، محمد أبو زهرة ص٢٣.
1 / 19
تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ (التوبة:٦٤) ١، وقد كان المنافقون يتظاهرون بالإسلام ويختلطون بالمسلمين ويقفون على أسرارهم وأحوالهم فكانوا كلما عزموا أمرًا نقضه الله تعالى، أو بيتوا كيدًا أظهره الله، فأظهر فضائحهم وجعل مكنون أسرارهم معلومًا لرسوله ولمن آمن معه واقرأ إن شئت ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة:٨-٩)، وقوله: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (المنافقون: ١)، وغير ذلك من الآيات التي كانت تنزل على النبي ﷺ مفرقةً تنبيهًا له وتحذيرًا له وللمؤمنين.
سابعًا: التحدي والإعجاز وهو ظاهر وواضح في كل مرحلة من مراحل نزوله مفرقًا فقد تحداهم الله تعالى أن يأتوا بالقرآن فلم يستطيعوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يستطيعوا، وتحداهم أن يأتوا بحديث مثله فلم يستطيعوا، وأتاح لجميع المشركين والمعارضين الدخول في معركة التحدي فلم يفلحوا.
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ (الطور:٣٣، ٣٤)، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (هود:١٣)، ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة:٢٣) .
_________
١ وانظر علوم القرآن ٧٦.
1 / 20