Repeating Congregation in the Mosque
حكم تكرار الجماعة في المسجد
प्रकाशक
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
संस्करण संख्या
العدد ١٢٠-السنة ٣٥
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٣هـ/٢٠٠٣م
शैलियों
حكم تكرار الجماعة في المسجد
حالات التكرار وحكمها:
أجمعوا على أن المسجد إذا لم يكن له أهل معروفون، بأن كان على شوارع الطرق، ويصلي الناس فيه فوجًا فوجًا فهذا لا يكره فيه تكرار الجماعة، بل الأفضل أن يصلي كل فريق بأذان وإقامة على حده١ لأن هذا المسجد ليس له أهل معروفون، وأداء الجماعة فيه مرة بعد أخرى لا يؤدي إلى تقليل الجماعات.
أجمعوا - كذلك - على عدم كراهة تكرار الجماعة في مسجد ليس له إمام ولا مؤذن٢.
ولا يكره أيضا عند عامة الفقهاء تكرار الجماعة في مسجد صلى فيه أولا غيرُ أهله جماعة، ثم جاء الإمام الراتب بعدهم في جماعة أن له فيصلي بهم جماعة.
وذكر الحنفية أنه: "إذا كان مسجد محلة، وقد صلى فيه أولا غير أهله، بأذان وإقامة فلا يكره لأهله أن يعيدوا الأذان والإقامة، وإن صلى فيه أهله بأذان وإقامة أو بعض أهله، فإنه يكره لغير أهله وللباقين من أهله أن يعيدوا"٣.
وقال المالكية - كما ذكر ابن عبد البر - ٤ لو أن جماعة تقدّمتْ فصلّتْ
_________
١ انظر الأصل للإمام محمد بن الحسن ١/١٣٤ والأم للإمام الشافعي ١/٢٧٨والمدونة الكبرى للإمام مالك ١/٨٩ والاستذكار لابن عبد البر ٤/٦٣ والمجموع للنووي ٤/٢٢١ والفروع لابن مفلح الحنبلي ١/٥٨٣.
٢ انظر الشرح الصغير للدردير ١/٤٣٢، ٤٤٢، وبدائع الصنائع للكاساني ١/٤١٨ وبذل المجهود في حل أبي داود للشيخ خليل السهارنفوري ٤/١٧٧.
٣ انظر بدائع الصنائع ١/٤١٨، ٤١٩ وحاشية ابن عابدين ١/٥٥٣.
٤ في الكافي في فقه أهل المدينة المالكي ١/٢٢٠ وانظر كذلك التفريع لابن الجلاب البصري المالكي ١/٢٦٣ (ط: دار الغرب الإسلامي) .
1 / 308
جماعة، ثم جاء الإمام الراتب بعدهم في جماعة فإن له أن يصلي بهم جماعة.
وبنحو هذا قال الحنابلة١.
لأن المسجد إذا صلّى فيه غير أهله فإنه لا يؤدي إلى تقليل الجماعة، لأن أهل المسجد ينتظرون أذان المؤذن المعروف فيحضرون حينئذ، ولأن حق المسجد لم يُقض بعد، لأن قضاء حقه على أهله٢.
٤- إذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلًا أو رجالًا فيه الصلاة، فهل يصلون جماعة بإمامةِ غير الراتب بعد الراتب؟ فيه خلاف، وهذا تفصيله:
أقوال الفقهاء في المسألة:
القول الأول: يُصلون فرادى ولا يُصلون جماعة، قال به الحسن٣ وأبو قلابة٤ والقاسم بن محمد٥ وإبراهيم النخعي٦.
ففي مصنف عبد الرزاق٧ عن الحسن قال: "يُصلون فرادى"، وعنه: "يُصلون
_________
١ انظر حاشية الروض المربع ٢/٢٧١.
٢ انظر بدائع الصنائع الصفحة السابقة
٣ الحسن بن أبي الحسن البصري إمام فقيه حجة (ت١١٠هـ) وترجمته في طبقات ابن سعد ٧/١٥٦ والتهذيب ٢/٢٦٣.
٤ عبد الله بن زيد بن عمرو البصري محدث فقيه عالم (ت١٠٦هـ) وترجمته في التهذيب ٥/٢٢٤.
٥ القاسم بن محمد بن أبي بكر بن الصديق عالم محدث فقيه المدينة (ت١٠٦؟) وترجمته في التهذيب ٨/٣٣٣ ووفيات الأعيان ٤/٥٩.
٦ إبراهيم بن يزيد النخعي فقيه العراق ومن أكابر العلماء (ت ٩٦هـ) وترجمته في التهذيب١/١٧٧ والحلية ٤/٢١٧.
٧ ٢/٢٩٣ ورواه أيضًا ابن أبي شيبة في مصنفه ٢/٢٢١.
1 / 309
وُحدانا"، وبه يأخذ الثوري١، قال عبد الرزاق٢: وبه نأخذ أيضًا.
وروى ابن أبي شيبة ٣ عن أبي قلابة قال: "يُصلون فرادى" وروي عن وكيع عن أفلح قال: "دخلنا مع القاسم المسجد وقد صُلي فيه، قال: فصلى القاسم وحده"٤.
وفي مصنف عبد الرزاق ٥ عن الحسن بن عمرو: "أن إبراهيم كره أن يؤمهم في مسجد قد صُلي فيه".
وهو قول ابن المبارك٦ وسالم٧ والليث بن سعد٨ والأوزاعي٩ وجماعة١٠
_________
١ سفيان بن سعيد الثوري محدث فقيه حجة (ت ١٥١هـ) وترجمته في تذكرة الحفاظ١/٣٠٢ والتهذيب ٤/١١١.
٢ عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري صاحب المصنف عالم محدث (ت٢١١هـ) وترجمته في التهذيب ٦/٣١٠ ووفيات الأعيان ٣/٢١٦.
٣ ابن أبي شيبة ٢/٢٢١.
٤ ابن أبي شيبة ٢/٢٢٢.
٥ ٢/٢٩٢.
٦ عبد الله بن المبارك إمام محدث حافظ فقيه (ت١٨١هـ) وترجمته في طبقات ابن سعد ٧/٣٧٢ والتهذيب ٥/٣٨٢.
٧ سالم بن عبد الله بن عمر عالم محدث من فقهاء المدينة (ت١٠٦هـ) وترجمته في التهذيب٣/٤٣٨ ووفيات الأعيان ٢/٢٤٩.
٨ الليث بن سعد مفتي مصر وإمامها في الحديث والفقه (ت١٧٥هـ) وترجمته في طبقات ابن سعد ٧/٥١٧ والتهذيب ٨/٤٥٩.
٩ عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام فقيه حجة (ت١٥٧هـ) وترجمته في طبقات ابن سعد ٧/٤٨٨ والتهذيب ٦/٢٣٨.
١٠ انظر سنن الترمذي ٢/٩ وشرح السنة للبغوي ٣/٤٣٧ والاستذكار لابن عبد البر ٤/٦٥ وعمدة القاري للعيني ٥/١٦٥.
1 / 310
وبه قال من الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي.
ففي كتاب الأصل ١ "أرأيت قومًا فاتتهم الصلاة في جماعة فدخلوا المسجد وقد أقيم في ذلك المسجد وصُلي فيه، فأراد القوم أن يُصلوا فيه جماعة.. قال: ولكن عليهم أن يُصلوا وُحدانا" وهو ظاهر الرواية في المذهب٢.
وفي الموطأ ٣ "سئل مالك عن مؤذن ٤ أذّن لقوم ثم انتظر هل يأتيه أحد فلم يأته أحد، فأقام الصلاة وصلّى وحده، ثم جاء الناس بعد أن فرغ، أيعيد الصلاة معهم؟ قال: لا يعيد الصلاة، ومن جاء بعد انصرافه فليصل لنفسه وحده.
ويكره عند المالكية تكرار الجماعة في مسجد له إمام راتب، وكذلك يكره إقامة الجماعة قبل الإمام الراتب، ويحرم إقامة جماعة مع جماعة الإمام الراتب، والقاعدة عندهم: أنه متى أُقيمت الصلاة مع الإمام الراتب، فلا يجوز إقامة صلاة أخرى فرضًا أو نفلًا، لا جماعة ولا فرادى، ومن صلّى جماعة مع الإمام الراتب وجب عليه الخروج من المسجد لئلا يؤدي إلى الطعن في الإمام، وإذا دخل جماعة مسجدًا فوجدوا الإمام الراتب قد صلّى ندب لهم الخروج ليُصلّوا جماعة خارج المسجد، إلا المساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فيُصلّون فيها فرادى - إن دخلوها - لأن صلاة المنفرد فيها
_________
١ ١/١٣٤.
٢ بدائع الصنائع ١/٤١٨ وتحفة الفقهاء للسمرقندي ١/١٨٨ وحاشية ابن عابدين ١/٣٧٧، ٣٩٦، ٥٥٣.
٣ ١/١٤٨ (مع الزرقاني) .
٤ قال ابن نافع (المؤذن) هنا: هو الإمام الراتب، ولم يُرد المؤذن، قال ابن عبد البر: وهذا تفسير حسن على أصل قول مالك: المسجد الذي له إمام راتب لا يجمع فيه صلاة واحدة مرتين. انظر الاستذكار ٤/٦٣.
1 / 311
أفضل من جماعة غيرها.
ولا يكره تكرار الجماعة في المساجد التي ليس لها إمام راتب - كما تقدم١ - وفي الأم ٢ للإمام الشافعي: "وإن كان للمسجد إمام راتب، ففاتت رجلًا أو رجالًا فيه الصلاة، صلّوا فرادى، ولا أحب أن يصلّوا فيه جماعة ...".
ويكره عندهم إقامة الجماعة في مسجد بغير إذن من الإمام الراتب مطلقًا قبله أو بعده أو معه، ولا يكره فيما ليس له إمام راتب أو له وضاق المسجد عن الجميع، أو خيف خروج الوقت، لأنه لا يحمل التكرار على المكيدة٣.
أدلة هذا القول:
ومما احتج به هؤلاء المانعون لتكرار الجماعة:
١- حديث أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أُخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين٤ حسنتين لشهد العشاء" ٥.
_________
١ انظر المدونة ١/٨٩ والاستذكار ٤/٦٣ والشرح الصغير للدردير ١/٤٣٢، ٤٤٢ والكافي ١/٢٢٠ والمنتقى للباجي ١/١٣٧ والمعونة للبغدادي ١/٢٥٨.
٢ ١/٢٧٨.
٣ انظر شرح السنة ٣/٤٣٧ والمجموع ٤/٢٢٢ ومغني المحتاج ١/٢٣٤.
٤ قوله "العرق" قال ابن أثير: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم، وقال الأصمعي: قطعة لحم، انظر النهاية ٣/٢٢٠ والفتح ٢/١٢٩ و"مرماتين" تثنية مرماة وهي ظلف الشاة وقيل غير ذلك انظر شرح الكلمة في النهاية ٢/٢٦٩، ٢٧٠ والفتح ٢/١٢٩، ١٣٠.
٥ رواه البخاري ٢/١٢٥ (مع الفتح) ومسلم ٥/١٥٣ (مع شرح النووي) وأبو داود١/٣٧١ والترمذي مختصرا ١/٦٣١ والنسائي ٢/١٠٧ وابن ماجه ١/٢٥٩.
1 / 312
قال العثماني في إعلاء السنن١: "دلّ الحديث بعبارته أن الجماعة الأولى هي التي ندب الشارع إلى إتيانها كما يفيده قوله ﷺ: "هممت أن آمر رجلًا يصلّي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها" فلو كانت الجماعة الثانية مشروعة لم يهم بإحراق من تخلف عن الأولى لاحتمال إدراك الثانية، إذا ثبت هذا فنقول: إن وجوب الإتيان إلى الجماعة الأولى يستلزم كراهة الثانية في المسجد الواحد حتمًا، فإنهم لا يجتمعون إذا علموا أنهم لا تفوتهم الجماعة الثانية.
٢ - وحديث أبي بكرة ﵁ قال: أقبل النبي ﷺ من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلّوا فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم ٢.
قالوا: فلو كانت جائزة بغير كراهة لما ترك فضيلة الصلاة في مسجده.
٣ - وعن الحسن قال: إن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا إذا فاتتهم الجماعة صلّوا في المسجد فرادى٣.
٤ - ولأن التكرار يؤدي إلى تقليل الجماعة، لأن الناس إذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة فيستعجلون فتكثر الجماعة، وإذا علموا أنها لا تفوتهم، يتأخرون فتقل الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه٤.
القول الثاني: وذهب آخرون إلى أنه لا يُكره تكرار الجماعة بإمامة غير الراتب بعد انتهاء الإمام الراتب، روي ذلك عن أنس وابن مسعود (وعطاء٥
_________
١ ٤/٢٤٦.
٢ رواه الطبراني في الأوسط وقال رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد ٢/٤٥.
٣ رواه ابن أبي شيبة ٢/٢٢٢.
٤ بدائع الصنائع ١/٤١٩.
٥ عطاء بن أبي رباح عالم فقيه تابعي (ت ١١٥هـ) وترجمته في التهذيب ٧/١٩٩ والأعلام ٥/٢٩.
1 / 313
وقتادة١) وهو رواية عن الحسن والنخعي فقد روى البخاري ٢ معلقًا "أن أنسًا جاء إلى مسجد قد صُلي فيه فأذّن وأقام وصلّى جماعة".
قال الحافظ٣: وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان قال: مرّ بنا أنس بن مالك في مسجد بني ثعلبة، فذكر نحوه، قال: وذلك في صلاة الصبح، وفيه: "فأمر رجلًا فأذن وأقام ثم صلّى بأصحابه" وأخرجه ابن أبي شيبة٤ من طرق عن الجعد وكذلك عبد الرزاق في المصنف٥.
وروى ابن أبي شيبة ٦ عن سلمة بن كهيل أن ابن مسعود دخل المسجد وقد صلّوا فجمع بعلقمة ومسروق والأسود.
وروى عن أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسًا أن تصلّي الجماعة بعد الجماعة في مسجد الكلاّءِ بالبصرة٧.
وروى عن عطاء أنه صلّى هو وسالم بن عطية في المسجد الحرام في جماعة بعد ما صلّى أهله٨.
_________
١ قتادة بن دعامة البصري إمام فقيه لغوي (ت ١١٧؟) وترجمته في التهذيب ٨/٣١٥ والحلية ٢/٣٣٣
٢ ٢/١٣١.
٣ فتح الباري ٢/١٣١ ورواه ابن حزم أيضًا في المحلى ٤/٢٣٧.
٤ ٢/٢٢٠،٢٢١.
٥ ٢/٢٩١، ٢٩٢.
٦ المصنف ٢/٢٢١.
٧ المصنف ٢/٢٢١ والكلاّء بالفتح ثم التشديد والمد: محلة مشهورة وسوق بالبصرة، انظر مراصد الاطلاع على أسماء الأماكن والبقاع لصفي الدين البغدادي ٣/١١٧٣
٨ المصنف ٢/٢٢١
1 / 314
وروى عبد الرزاق١ عن قتادة قال: إذا دخل الرجلان المسجد خلاف الصلاة ٢ صلّيا جميعًا أمَّ أحدهما صاحبه.
وروي عن عبد الله بن يزيد قال: "أمَّني إبراهيم في مسجد قد صُلي فيه فأقامني عن يمينه بغير أذان ولا إقامة"٣ وروي ذلك عن عدي بن ثابت٤ وإسحاق٥ وأشهب٦ وابن حزم٧ وبه قال الإمام أحمد ٨ وزاد: إلا في مسجد مكة والمدينة فقط فإنه تكره إعادة الجماعة فيهما، رغبة في توفير الجماعة، أي لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الراتب في المسجدين إذا أمكنهم الصلاة في جماعة أخرى وذلك في غير عذر كنوم ونحوه.
ويحرم عنده إقامة جماعة في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه - وهو مكروه عند غيره - لأنه بمنزلة صاحب البيت، وهو أحقّ بها لقوله ﷺ: "لا يؤَمَّنَّ
_________
١ المصنف ٢/٢٩٣
٢ أي عقب صلاة انتهاء الجماعة.
٣ المصنف ٢/٢٩٢ وروى نحوه ابن أبي شيبة عنه ٢/٢٢١ وابن حزم ٤/٢٣٨
٤ عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي عالم ثقة (ت ١١٦؟) وترجمته في التهذيب ٧/١٦٥
٥ إسحاق بن راهويه المروذي إمام محدث فقيه (ت ٢٨٨؟) وترجمته في الحلية ٩/٢٢٤ والتهذيب ١١/٣١٦
٦ أشهب بن عبد العزيز العامري، اسمه مسكين وأشهب لقب فقيه مالكي (ت ٢٠٤هـ-) وترجمته في الديباج المذهب لابن فرحون ١/٣٠٧
٧ انظر مصنف عبد الرزاق ٢/٢٩٤ وسنن الترمذي ٢/٩ والسنن الكبرى للبيهقي ٣/٦٩،٧٠ وشرح السنة ٣/٤٣٧ وعمدة القاري ٥/١٦٥ والاستذكار ٤/٦٣ والمحلى ٤/٢٣٧
٨ انظر المغني ٣/١٠،١١ وكشاف القناع ١/٥٣٧،٥٣٩ والإنصاف ٢/٢١٩ والمبدع ٢/٤٦،٤٧ وحاشية الروض المربع ٢/٢٦٧،٢٧٠
1 / 315
الرجل في بيته ولا في سلطانه إلا بإذنه" رواه أبو داود. ١ وفي رواية لمسلم ٢: "ولا يؤمّن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه" قال النووي ٣: "إن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحقّ من غيره".
ولأنه يؤدي إلى التنفير عنه، وتبطل فائدة اختصاصه بالتقدم.
وكذلك يحرم إقامة جماعة أخرى أثناء صلاة الإمام الراتب، ولا تصح الصلاة في كلتا الحالتين - أي قبل الإمام الراتب وأثناء صلاته - وعلى هذا فلا يحرم ولا تكره الجماعة بإذن الإمام الراتب لأنه مع الإذن يكون المأذون نائبا عن الراتب.
ولا يحرم ولا تكره أيضا إذا تأخر الإمام الراتب لعذر وضاق الوقت أو ظن عدم حضوره، ولم يكن يكره أن يُصلي غيره في حال غيبته لصلاة أبي بكر ﵁ بالناس حين غاب النبي ﷺ في بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم٤.
_________
١ ١/٣٩٠،٣٩١
٢٥ /١٧٣.
٣ شرح مسلم ٥/١٧٣.
٤ عن سهل بن سعد الساعدي – ﵁ – أن رسول الله ﷺ ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر – ﵁ – فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله ﷺ والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله ﷺ فأشار إليه رسول الله ﷺ أن امكث مكانك... ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم رسول الله ﷺ، فلما انصرف قال: "يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ " فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله ﷺ وفيه: "من رابه شيء في صلاته فليسبح ... وإنما التصفيق للنساء". رواه البخاري واللفظ له ٢/١٦٧ ومسلم ٤/١٤٥ وأبو داود ١/٥٧٨.
1 / 317
الشمول والاستغراق فتدخل فيه كل جماعة، سواء كانت الأولى أو التي بعدها.
٢- وحديث أبي سعيد قال: جاء رجل وقد صلّى رسول الله ﷺ فقال: "أيكم يتجر ١ على هذا؟ " فقام رجل وصلّى معه٢.
٣- وحديث أبي أمامة أن النبي ﷺ رأى رجلًا يصلي وحده، فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ " فقام رجل فصلى معه، فقال رسول الله ﷺ: "هذان جماعة" ٣.
٤- وعن أنس ﵁ أنه جاء إلى مسجد قد صُلي فيه فأذن وأقام وصلّى جماعة٤.
_________
١ قال في النهاية ١/١٨٢: هو (يفتعل) من التجارة لأنه يشتري بعمله الثواب، ولا يكون من الأجر على هذه الرواية، لأن الهمزة لا تدغم في التاء، وإنما يقال فيه: (يأتجر) وراجع غريب الحديث للخطابي ٣/٢٢٩ والمجموع المغيث ١/٢١٨،٢١٩.
٢ رواه الترمذي ٢/٦ وأبو داود ١/٣٨٦ والإمام أحمد ٣/٦٤ و٥/٤٥ والحاكم ١/٢٠٩ والدارمي ١/٣١٨ وابن أبي شيبة ٢/٢٢٠ وابن حزم في المحلى ٤/٢٣٨ وقال: "لو ظفروا - يعني مخالفيه - بمثل هذا لطاروا به كل مطار". يريد بذلك أنه صحيح عنده لا مطعن فيه. ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٣/٦٩،٧٠ وعنده: "فقام أبو بكر ﵁ فصلى معه، وكان قد صلّى مع رسول الله ﷺ". ورواه أيضًا ابن حبان ٦/١٥٧، ١٥٨ بلفظ: "ألا من رجل يتصدق على هذا فليصلّ معه"، وهذا لفظ أبي داود أيضا، وسماه صدقة لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة إذ لو صلى منفردا لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة. قاله المظهري كما في بذل المجهود في حل أبي داود ٤/١٧٧.
٣ أخرجه الإمام أحمد ٥/٢٥٤ والطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٢/٤٥: "له طرق كلها ضعيفة".
٤ رواه البخاري معلقًا ٢/١٣١ وقد تقدم تخريجه قريبًا.
1 / 318
مناقشة الأدلة:
هذا وقد أورد المانعون لتكرار الجماعة على هذه الأدلة ما يأتي:
١- إن حديث تفضيل صلاة الجماعة على الفذ يحتمل أن يكون في الجماعة الأولى لأنها هي التي ندب الشارع إليها.
٢- وحديث أبي سعيد ﵁ لا يتم الاستدلال به، لأن فيه اقتداء المتنفل بالمفترض ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في اقتداء المفترض بالمتنفل ١. وقال الزرقاني ٢ إنها واقعة حال محتملة فلا ينهض حجة في عدم الكراهية.
٣- وحديث أبي أمامة طرقه كلها ضعيفة كما قال الهيثمي٣.
٤- وأما ما روي عن أنس ﵁ فإنه يحتمل أن يكون المسجد مسجد الطريق الذي لا يكره تكرار الجماعة فيه، ويرجح هذا الاحتمال تكراره ﵁ الأذان والإقامة الذي لا يجوّزه من جوّز تكرار الجماعة في مسجد المحلة. ٤.
وقد أجيب عن هذه الإيرادات بما يلي:
أن حمل حديث التفضيل على الجماعة الأولى لا دليل عليه. والظاهر أن هذه الفضيلة تحصل لكل جماعة بقطع النظر عما ذكر، لأن الحديث دلّ على فضيلة الجماعة على المنفرد فيدخل فيه كل جماعة، ويقويه ما رواه ابن أبي شيبة٥ بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: "إذا صلّى الرجل مع
_________
١ انظر إعلاء السنن ٤/٢٤٨.
٢ شرح الزرقاني على الموطأ ١/١٤٩.
٣ مجمع الزوائد ٢/٤٥.
٤ انظر إعلاء السنن ٤/٢٤٨.
٥ المصنف ٢/٤١٢.
1 / 319
١- الرجل فهما جماعة لهما التضعيف خمس وعشرين درجة"١.
٢- وأما حديث أبي سعيد ﵁ ففيه دليل على إعادة الجماعة - وهو المطلوب - وأما اقتداء المفترض بالمتنفل أو بالمفترض فهو بحث آخر لا علاقة له بموضوع البحث. وأما دعوى الزرقاني بأنها واقعة حال وقضية عين فلم أقف على دليل يدل عليه، والأصل أنه تشريع عام، والله أعلم.
٣- وأما حديث أبي أمامة ﵁ فلا يضره ضعفه، إذ في الباب حديث أبي سعيد - المتقدم آنفًا - وقد حسّنه الترمذي وصححه الحاكم وابن حبان وابن خزيمة، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح٢.
وفي الباب عن أبي موسى والحكم بن عمير ٣ وأنس وسلمان وعصمة بن مالك الخطمي.٤.
٤- وأمّا ما روى عن أنس ﵁ فلا يُردّ بالاحتمال الذي أوردتموه.
هذا وقد ناقش القائلون بتكرار الجماعة أدلة المانعين بما يأتي:
حديث أبي هريرة ﵁ ليس نصًا في هذه المسألة، بل هو في التشديد على من تخلف عن الجماعة، أو أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسًا لا مجرد الجماعة، أو أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة. أو أن الحديث ورد في حق المنافقين فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه، ذكره الحافظ، وقال: "والذي
_________
١ انظر فتح الباري ٢/١٣٦.
٢ انظر نصب الراية للزيلعي ٢/٥٧.
٣ سنن الترمذي ٢/٧.
٤ نصب الراية ٢/٥٧،٥٨.
1 / 320
١- يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله ﷺ: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر" الحديث ١ ولقوله ﵊: "لو يعلم أحدهم أنه يجد ...الخ" لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل. ٢ وقال الشاطبي ٣: الحديث مختص بأهل النفاق بدليل قول ابن مسعود: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق".٤
٢- وأما حديث أبي بكرة فلا دليل لكم فيه فإنه يدل بعمومه على استحباب إعادة الجماعة - لا على منعها - بغض النظر عن أن تكون الإعادة في المسجد أو في البيت، فالإعادة حصلتْ، وهذا هو الشاهد، ثم إن هذا الحديث لا يُعلم حاله، كيف هو قابل للاحتجاج أم لا؟ وقول الهيثمي: رجاله ثقات، لا يدل على صحته إذ لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحًا، قال الزيلعي: ٥ في الكلام على بعض روايات الجهر بالبسملة: "لا يلزم من ثقة الرجال صحة الحديث حتى ينتفي منه الشذوذ والعلة".
وقال الحافظ في (التلخيص) ٦ عند الكلام على بعض روايات حديث بيع العينة: "لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات، أن يكون صحيحًا".
هذا إذا سُلم أن رجال هذا الحديث ثقات على ما قاله الهيثمي. لكن قال صاحب (العرف الشذى) - كما في (تحفة الأحوذي) ٧ و(إعلاء السنن) –: "إن
_________
١ رواه البخاري ٢/١٤١.
٢ انظر فتح الباري ٢/١٢٦،١٢٧.
٣ الموافقات ٤/١٥٦.
٤ رواه مسلم ٥/١٥٦.
٥ في نصب الراية ١/٣٤٧.
٦ التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير ٣/١٩.
٧ ١٠/٢
1 / 321
في سنده معاوية بن يحي وهو متكلم فيه".
وقد ذكر الذهبي ١ أحاديثه المناكير وذكر فيها حديث أبي بكرة هذا وكذلك فعل ابن عدي. ٢
ثم لو سُلّم أن رسول الله ﷺ صلّى بأهله في منزله لا يثبت منه كراهة تكرار الجماعة في المسجد، بل غاية ما يثبت منه أنه لو جاء رجل في مسجد قد صُلي فيه فيجوز له أن لا يُصلى فيه جماعة، بل يخرج منه فيميل إلى منزله فيصلي بأهله فيه، وأما أنه لا يجوز له أن يُصلي في ذلك المسجد بالجماعة أو يكره له ذلك فلا دلالة للحديث عليه ألبتة، كما لا يدل الحديث على كراهة أن يصلي فيه منفردًا.
ثم لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة لأجل أنه ﷺ لم يُصل في المسجد لثبت منه كراهة الصلاة فرادى أيضًا في مسجد قد صُلي فيه لأنه ﷺ لم يُصل في المسجد لا منفردًا ولا جماعة، والحاصل: أن الاستدلال بحديث أبي بكرة المذكور على كراهة تكرار الجماعة في المسجد، واستحباب الصلاة فرادى ليس بصحيح. ذكره المباركفوري وقال: "ولم أجد حديثًا مرفوعًا صحيحًا يدل على هذا المطلوب". ٣
وأما أثر الحسن "كان أصحاب محمد ﷺ إذا دخلوا المسجد - وقد صُلي فيه - صلوا فرادى" فقد أجاب عنه صاحب (تحفة الأحوذي) ٤ بأن
_________
١ في ميزان الاعتدال ٤/١٣٩،١٤٠.
٢ في الكامل في ضعفاء الرجال ٦/٤٠١، ٤٠٣.
٣ تحفة الأحوذي ٢/١٠،١١.
٤ ٢ / ١١
1 / 322
١- صلاتهم فرادى إنما كانت لخوف السلطان محتجًا بما رواه ابن أبي شيبة ١ حدثنا هشيم، أخبرنا منصور عن الحسن قال: "إنما كانوا يكرهون أن يجمعوا مخافة السلطان".
الترجيح:
وبهذا يظهر أن أدلة الفريق الثاني القائلين باستحباب تكرار الجماعة أصح وأصرح في الدلالة - كما لا يخفى.
ولكن المانعين للجماعة الثانية - وهم الجمهور - يقولون، إنما قلنا بمنع تكرار الجماعة إذا كان تكرارها يؤدي إلى اختلاف الكلمة ومفارقة الجماعة، ومنابذة الأئمة ووقوع العداوة، فالمقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة هو تأليف القلوب واتحاد الكلمة حتى يقع الأنس والمحبة بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الحقد والحسد، فإذا كانت الجماعة الثانية تؤدي إلى ضياع هذه المعاني وغياب هذه المقاصد وإبطال هذه الحِكم فلا تشرع.
وأيضًا فإن إطلاق القول باستحباب تكرار الجماعة، يُعطي ذريعة لأهل الزيغ والضلال والبدع لإظهار نحلتهم وإعلان بدعتهم. وفي ذلك حصول المكروه، لأجل هذا كله رأى هؤلاء القوم من أهل العلم منع تكرار الجماعة حفاظًا على وحدة الصف واتحاد الكلمة، ومنعًا لأهل الضلال والباطل من إظهار نحلتهم وبدعتهم.
قال الشافعي٢: "... وإنما كرهتُ ذلك لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم قال: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم، إنما كان لتفرق
_________
١ المصنف ٢/٢٢١ وذكره ابن عبد البر في الاستذكار ٤/٦٨.
٢ الأم ١/٢٧٨.
1 / 323
الكلمة، وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إمام الجماعة فيتخلف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة، فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف، وتفرق كلمة وفيهما المكروه، وإنما أكره هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن، فأما مسجد بُني على ظهر الطريق، أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب، ولا يكون له إمام معلوم ويصلى فيه المارة ويستظلون، فلا أكره ذلك فيه، لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة ...".
وقال الإمام ابن عبد البر - بعد أن ذكر قول الإمام مالك وغيره ممن منع تكرار الجماعة - قال: "هذه المسألة لا أصل لها إلا إنكار جمع أهل الزيغ والبدع، وألا يتركوا وإظهار نحلتهم، وأن تكون كلمة السنة والجماعة هي الظاهرة لأن أهل البدع كانوا يرتقبون صلاة الإمام ثم يأتون بعده، فيجمعون لأنفسهم بإمامهم، فرأى أهل العلم أن يمنعوا من ذلك وجعلو الباب بابا واحدًا، فمنعوا منه الكل، والأصل ما وصفت لك".١
وقال الإمام ابن العربي في قوله تعالى: ﴿وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ٢: "يعني أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد، فأرادوا أن يفرّقوا شملهم في الطاعة وينفردوا عنهم للكفر والمعصية، وهذا يدلّك على أن المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب... ولهذا المعنى تفطّن مالك ﵁ حين قال: إنه لا تُصلى جماعتان في مسجد واحد لا بإمامين ولا بإمام واحد...حيث كان ذلك تشتيتًا للكلمة وإبطالًا لهذه الحِكمة ..."٣.
_________
١ الاستذكار ٤/٦٤، ٦٥.
٢ سورة التوبة آية (١٠٧) .
٣ أحكام القرآن ٢/٥٨٢ وانظر أيضًا تفسير القرطبي ٨/٢٥٧
1 / 324
وقال الباجي: "... ولو جاز الجمع في مسجد مرتين لكان ذلك داعية إلى الافتراق والاختلاف ولكان أهل البدع يفارقون الجماعة بإمامهم ويتأخرون من جماعتهم ثم يُقدّمون منهم، ولو جاز مثل هذا لفعلوا مثل ذلك بالإمام الذي تؤدى إليه الطاعة فيؤدي ذلك إلى إظهار منابذة الأئمة ومخالفتهم ومفارقة الجماعة فوجب [أن يغلق] عليهم هذا الباب.
ووجه آخر: أنه لو وسع في مثل هذا الأمر لأدى إلى أن لا تُراعى أوقات الصلاة، ولأخّر من شاء وصلى بعد ذلك في جماعة. وقصْر الناس على إمام واحد داع إلى مراعاة صلاته والمبادرة إلى إدراك الصلاة معه". ١
يظهر من هذا أن المنع من تكرار الجماعة حيث كان ذلك تشتيتًا للكلمة وتفريقًا للجماعة وتمزيقًا للوحدة، أي ما كان على سبيل التداعي والاجتماع. أما إذا لم يكن على هذا الوجه بأن حصل ذلك لنفرٍ قليل تأخروا عن الجماعة لعذر - دون قصد الاختلاف والافتراق عن جماعة المسلمين أو مخالفة الأئمة ومنابذتهم - فإن تكرار الجماعة في مثل هذه الحالة لا يُكره. وقد نصّ على ذلك القائلون بالمنع، وهذا الشافعي يقول: ".. فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة.. واحسب كراهية من كره ذلك منهم أنما كان لتفرق الكلمة"٢.
وقال أبو يوسف: "إنما يُكره إذا كانت الجماعة الثانية كثيرة٣، فأما إذا كانوا ثلاثة أو أربعة فقاموا في زاوية من زوايا المسجد وصلوا بجماعة لا يُكره"
_________
١ المنتقى ١/١٣٧.
٢ الأم ١/٢٧٨.
٣ وحمل الكاساني حديث أبي سعيد المتقدم على هذا حيث قال: "لأنه أمر واحدًا - يعني في قوله: أيكم يتجر على هذا - وذا لا يُكره وإنما المكروه ما كان على سبيل التداعي والاجتماع" البدائع ١/٤١٩.
1 / 325
وروي عن محمد بن الحسن الشيباني: "أنه إنما يُكره إذا كانت الثانية على سبيل التداعي والاجتماع فأما إذا لم يكن فلا يُكره" ١.
وروي نحو هذا عن أشهب المالكي ٢ فعن أصبغ، قال: دخلت المسجد مع أشهب، وقد صلّى الناس، فقال لي: "يا أصبغ ائتم بي وتنحّى إلى زاوية فأْتممتُ به" وتقدم قول المالكية أنهم يصلون جماعة خارج المسجد.
وقال الإمام النووي: - بعد أن ذكر الصحيح المشهور في المذهب وهو كراهة تكرار الجماعة بعد جماعة الإمام الراتب بغير إذنه - قال: "أما إذا حضر واحد بعد صلاة الجماعة فيستحب لبعض الحاضرين الذين صلوا، أن يُصلي معه لتحصل له الجماعة"٣ وفي مغني المحتاج٤: "ويستحب لمن صلّى إذا رأى من يُصلي تلك الفريضة وحده أن يُصلًيها معه ليحصل له فضيلة الجماعة".
والذين قالوا باستحباب تكرار الجماعة لم يغب عنهم هذا المعنى - أي أنها إذا كانت تفضي إلى اختلاف القلوب والتهاون بها مع الإمام فإنها تكره وإلا فلا - ففي الروض المربع شرح زاد المستقنع٥ بعد أن ذكر المذهب، وهو: استحباب تكرار الجماعة، قال: "وعنه: تكره ...لئلا يُفضي إلى اختلاف القلوب، والتهاون بها مع الإمام" وقال ابن مفلح الحنبلي:٦ "ولا تكره إعادة الجماعة" أي: إذا صلّى إمام الحي، ثم حضر جماعة أخرى استحب لهم أن يصلّوا جماعة...
_________
١ بدائع الصنائع ١/٤١٨.
٢ الاستذكار ٤/٦٣.
٣ المجموع ٤/٢٢٢.
٤ ١/٢٣٤.
٥ ٢/٢٧١.
٦ المبدع شرح المقنع ٢/٤٦،٤٧.
1 / 326
وقال القاضي: "يُكره لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب..."، وقال ابن حزم: "... وأما نحن فإن من تأخر عن صلاة الجماعة لغير عذر لكن قلة اهتبال أو لهوى أو لعداوة مع الإمام فإننا ننهاه...".١
نخلص من هذا إلى أن الفريقين يكادان يتفقان على مشروعية تكرار الجماعة إذا لم يكن التكرار على سبيل التداعي والاختلاف والافتراق ومنابذة الأئمة وشقًا لعصا المسلمين.
وأما إذا اتُّخذ التكرار ذريعة ووسيلة لتفريق الجماعة وتشتيت الكلمة وتمزيق الوحدة من قبل أهل الأهواء الزائغة والفرق المبتدعة أو كان يُفضي إليه - ولو غالبًا - لم يكن مشروعًا، بل كان ممنوعًا، لأن ما يؤدي إلى الممنوع فهو ممنوع، والنظر في المآلات معتبر عند أهل العلم. قال الإمام الشاطبي: ٢
"النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، [فقد يكون] مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب
_________
١ المحلى ٤/٢٣٧.
٢ الموافقات ٥/١٧٧، ١٧٨.
1 / 327
المذاق، محمود الغب ١ جار على مقاصد الشريعة".
ثم أخذ ﵀ يستدل على صحة ذلك بأمور، منها: أن استقراء الشريعة وأدلتها يدل على اعتبار المآلات، وذكر أمثلة تفصيلية كامتناعه ﷺ عن قتل المنافقين، فقد قال - حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه -: "لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه" ٢ فينفروا من الدخول في الإسلام. ثم قال الشاطبي: "... يكون العمل في الأصل مشروعًا، لكن يُنهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة...".
قلت: وهذا ينطبق على مسألتنا هذه، فإن الجماعة في الأصل مشروعة لحِكم، منها: مضاعفة الثواب وعموم البركة، والتواصل والتوادد، ولأجل معرفة أحوال بعضهم ببعض فيقوموا بعيادة المرضى وتشييع الموتى وإغاثة الملهوفين، وليحصل بينهم التعاون والائتلاف ولهذا قال ﷺ: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ". ٣
إذًا: فالجماعة موضوعة لهذه المعاني العظيمة والحِكم الجليلة، وهي وسيلة إلى الخير والوحدة والاتفاق، ولكن لو اتخذ من تكرار الجماعة وسيلة وذريعة إلى مفسدة الاختلاف والافتراق أو كان يفضي إليها لم تكن مشروعة.
قال الإمام ابن القيم ﵀ ٤: "الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان...والثاني: أن تكون (الأفعال أو الأقوال) موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب، فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه...كمن
_________
١ أي: العاقبة.
٢ رواه البخاري، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية ٦/٥٤٦ وفي التفسير، باب قوله: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) ٨/ ٦٤٨.
٣ رواه أبو داود ١/٤٣٢ وأحمد ٤/١٢٢ والحاكم ١/٥٨٣ وأبو عوانة ٢/٤١،٤٢.
٤ إعلام الموقعين ٣/١٣٦.
1 / 328