2
بل هو شديد الاعتقاد بالتفرد والإفراد وقد قال مرارا إن تاريخ العالم هو تاريخ عظماء الناس، على أن الفرد إنما هو صوت واحد ينطق باسم ملايين من الناس الصامتين، فالرجل العظيم إنما هو عظيم بشعبه لا بنفسه، هو يستمد معظم قوته مما يحيط به من الأشياء والظروف والرجال، هو خاضع كأصغر الناس لناموس الترقي الدائم الأزلي، بل هو صنيعة هذا الناموس وخادمه المخلص علم ذلك أو جهله، فلو ولد نابليون في بلاد الصين مثلا وعاش فيها لما كنا نعرفه الآن، ورب قائل: لو ولد نابليون هناك هل كانت حصلت فرنسا على المجد الذي أكسبها إياه؟ أجيب بالإيجاب؛ إذ لو لم يولد نابليون فيها لنشأ غيره، وهذا ما يجعلني شديد التمسك بما يدعى ناموس الترقي الدائم الذي يقضي بوجود رجل عظيم كل فترة من الزمن لتأييد هذا الناموس وتعزيزه.
إن القنوط والشك واليأس والفتور كلها طبائع تظهر في كل صفحة من هذا التاريخ وفي أسلوب إنشائه الجميل الفخيم، وقد قلت: إن كارليل هو أشبه بالشاعر مما هو بالمؤرخ، والشاعر لا يكون أستاذا في الاقتصاد السياسي ولا فيلسوفا في العمران، فهو إذا قرأ سجلات الحكومة الإفرنسية ومعلومات من شاهدوا الثورة يثور ثائره الشعري، فيحصل فيه انفجار أشبه بالبركان، ويدهمنا بحمم تحرق ولا تنير، فتسود منها آفاق البصيرة وتظهر أشباح أبطال الثورة التي يصفها وهي تتهادى في الظلمة غير المتناهية، ولكن ما هي غاية هذه الأشباح وما هو غرضها. ولماذا أشغلت فكر كارليل فألف فيها مجلدين ضخمين ألأنها كانت تندب وتنوح عبثا، وتقاتل وتحارب باطلا، وتصيح وتنادي دون غاية ودون مرمى؟ ماذا فعلت هذه الأشباح؟ أكلها الزمان فتلاشت من ذاكرة الإنسان، بلعتها الظلمات فأمحت من لوح الحياة.
هذا جواب كارليل وزبدة فلسفته المختبئة في أكمام الفصاحة وأشواك البيان، وبناء على ذلك لا يحق لتأليفه أن يدعى تاريخا، وإنما هو ملحق تصويري لتاريخ الثورة الإفرنسية ، وإن فصوله لأشبه بصور رسمتها يد ماهرة، صور تساعدنا على الدخول إلى تاريخ الثورة الجدي ولكن لا تنبئنا به كثيرا، فهي من هذا القبيل أشبه بالصور التي تزين بها الروايات التاريخية، تحملنا إلى بعض ما يقصده الكاتب ولا تكشف لنا الستار عن القصة بكاملها.
ومن وجهة فلسفية يمكننا أن نقول: إن المؤرخين اثنان الأول يعتقد بالنشوء والارتقاء الاجتماعي بالترقي الدائم بالصعود المستمر، والثاني لا يعتقد بشيء من هذا. فلسفة ذاك في العمران شبيهة بخط مستقيم عمودي، وفلسفة هذا بالدائرة. صعود البشر في رأي الأول دائم مستمر، وفي رأي الثاني محدود تصل الشعوب فيه إلى نقطة لا يستطيعون أن يتجاوزوها، فيهبطون عائدين إلى الهوة التي خرجوا منها، وهم في هذا يشبهون الحية التي تأكل ذنبها. ومثل هذا المؤرخ الذي لا يكترث في الأشياء ولا يحترم روح التاريخ ولا ينظر إلى ما وراء الحوادث يجرد على الفساد سلاح التهكم والازدراء ولا يفوز بغير الهدم والتدمير. ومثال ذلك أن كارليل يشغل فكرته وقريحته غالبا بطفيف الحوادث وتافهها شأن القصصي أو الكاتب الأخلاقي
3
ناهيك عن أنه لا يعتقد في تاريخه هذا بغير الزوال الدائم.
كل بيت للهدم ما تبتني الور
قاء والسيد الرفيع العماد
واللبيب اللبيب من ليس يغتر
अज्ञात पृष्ठ