لا تسقني كأس الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
سنة 1950
كذلك انتهت حرب الأمم يا بني، الحرب التي ترى أثرا من أهوالها في وجه أبيك وشيئا من عبرها في نفسه، الحرب التي أورثتني عينا من زجاج وعينا لوجداني من النور. وأنا واحد من أربعة ملايين نجوا من نيرانها مشوهين ظاهرا، مطهرين قلبا ووجدانا، بل أنا واحد من عشرات الملايين في كل أمة قضوا ثلاثين سنة آسفين على ضحايا تلك الحرب البشرية، قانطين من مساعي الإنسان، يائسين من مناهج الأمم، صابرين على عقم الأيام.
انتهت تلك الحرب الضروس يا بني، وما كان من نتائجها الظافرة، المخالفة لما تقدمها من الحروب، سوى سقوط الدول الأوتوقراطية الثلاث - أي: ألمانيا والنمسا وروسيا - وظهور الدول الصغيرة الجديدة في قلب أوروبا، وهي على حداثة سنها غاضبة على ماضيها، غير راضية بحاضرها، ناظرة بعين اليأس والرجاء إلى مستقبلها.
انتهت تلك الحرب عند عقد معاهدة فرساي التي لم يكد يطوي الزمان عاما عليها حتى نسي العالم تلك الآيات الرنانة التي كان يرددها الوزراء والرؤساء والصحافيون والزعماء، نسينا أو تناسينا «جمعية الأمم» و«حرية الشعوب الصغيرة» و«الحكم الذاتي الاختياري» و«استئصال السياسة السرية» و«تخفيض السلاح» وغيرها من المبادئ، التي سفك العالم المتمدن دم شبيبته من أجلها، نسيناها يا بني أو تناسيناها، وعدنا ظاهرا إلى ما كنا فيه قبل الحرب.
أما تأثير الحرب الأدبي والروحي فظل حيا في قلوب الناس وشرع ينمو في الهيئة الاجتماعية التي قلما تؤثر السياسة بها، والتي لا يظهر تأثيرها بالسياسة والأحكام إلا تدريجا، وببطء وغموض تملهما النفس، ويكاد ينكر العقل حقيقة فيهما دائمة، نعم يا بني، قد زرعت تلك الحرب بذور السلم في العالم، ولكنها لم تنم بادئ ذي بدء إلا في الطبقات الواطئة من المجتمع البشري، في طبقات العمال والفقراء، الطبقات التي التهمت نار الحرب رجالها، الطبقات التي لا يكون حرب في العالم دونها، بل لا تقوم حرب إلا بها وبضحاياها. وبما أن الذين تولوا الأحكام بعد تلك الحرب كانوا من الطبقة الوسطى التي تدعى في أوروبا «بورجوازي» لم يكن الشعب راضيا بها، ولما نهض العمال والفلاحون في روسيا يؤسسون حكومة منهم ولهم، حالت دون مساعيهم دول الأحلاف، فسقط ما كان يدعى الحكم البلشيفي، كما سقط قبله الحكم البورجوازي والحكم الأوتوقراطي.
وإذا عدنا إلى التاريخ ودققنا النظر في مجرى الأحكام التي أسسها الناس؛ نرى أنها تشير إلى دائرة فيها لم تزل ناقصة، فمن الحكم الأبوي، أي: حكم الحكماء في قديم الزمان، تدرجنا إلى الحكم الاستبدادي، أي: حكم الملوك والأمراء، ومنه إلى الحكم الدستوري أي: حكم الوجهاء والأكابر، ثم الحكم الاشتراكي، أي: حكم العمال الذي نحن فيه اليوم، والذي سيتبعه - ولا شك - هو الحكم الأبوي، الدستوري، الاشتراكي، الذي تتم عنده دائرة الأحكام كلها. ويظهر أنها تتبع بعضها بعضا على هذه الصورة طبقا للتاريخ وعملا بناموس النشوء والارتقاء، فإذا تأسس حكم العمال على عرش الحكم الاستبدادي مثلا لا يلبث أن يسقط فيقوم مقامه الحكم الدستوري البورجوازي، كذلك كان في روسيا عندما سقطت البلشيفية.
إن لحرب الأمم من هذا القبيل نتيجة شبيهة بنتيجة الثورة الإفرنسية، إذ إنها أسقطت الملوك الأوتوقراطيين عن عروشهم، وولت مكانهم بعد انقلابات عديدة من ادعوا زعامة الشعب من وجهاء الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازي، فلم يكن الانقلاب النهائي الأخير سوى انقلاب سياسي قضي فيه - ولا شك - على أصحاب التيجان وأرباب الشرف الموروث، وتعززت فيه سيادة أولئك السياسيين والزعماء الذين كانوا يرددون ألفاظ الحرية والمساواة، ويتشدقون بتلك الآيات الذهبية الرنانة، ثم يخدمون بأعمالهم وشرائعهم أمراء المال وأرباب المعامل والتجارة.
أجل يا بني، انتهت حرب الأمم ولم تنته حرب الأحزاب، أحزاب ذوي الثورة والسيادة وأحزاب العمال، لم تنته حرب الطبقات بعضها على بعض المتأصلة أسبابها في المجتمع الإنساني بل في أعماق الطبع البشري.
अज्ञात पृष्ठ