كان يوم وكانت «الفرائد الدرية» لي بستانا، و«نهج البلاغة» ميزانا، و«المقامات» ديوانا وخوانا وإني لأذكر أول مرة فتحت القاموس فوقع نظري في حرف الخاء على مادة خرج فقلت: وسفر الخروج، نقرؤه في المروج، على أنه حدث قبل ذلك حادث استقام فيه نوعا أمرنا، أمر هذه اللغة وأمري. (ولا بأس بالإشارة هنا إلى ما قد لا يشير إليه سواي إلا معتذرا فمن حسناتي - كثرت أو قلت - أني حكيم في ما لا يهم الناس في الأقل ولا يضر بالكون، وهي حكمة لا يجوز التواضع عندها، ولا التفاخر بها، إني ذاكرها فقط وفي رأس الطير ورأس الحية أيضا ما ينسيهما الدنيا في ما هما فيه مباشرة.)
عندما أزمعت إذا هجر ما ألفته من ضروب الإحسان، في البلاغة والبيان، أقمت والقاموس سنة، عددتها من أيام أهل الجنة، فنسيت في خزعبلات اللغة خزعبلات الحياة كلها، وأعذب الخزعبلات أبعدها من الأصول، ومن المعقول، فما القاموس - على رأي الشدياق - بكابوس، ولا هو تاج العروس، القاموس مستودع قمح فيه من الزوان والحصى والتراب شيء كثير، وقد تزودت من بعد الغربلة «أنا على سفر لا بد من زاد» ما قد لا يكفي في نظر علماء الأزهر ابن أسبوع في الكتاب الكريم، ولكن القناعة كنز لا يفنى، وما كلف الله نفسا فوق طاقتها - إن في الأمثال وفي الكتاب تعزية للكتاب والحق يقال إن خلاصي منوط غالبا بالاقتصاد، وكثيرا ما ألجم قريحتي فنسير الهوينا في الموعرات، أو أستوقفها فنجلس نستريح في ظل السكوت ونعيمه، فيشكرنا إذ ذاك القارئ، وتشكرنا كذلك اللغة.
4
لست في المفردات الشدياق، ولست في الأوضاع اليازجي، ولا أنا من الطامعين بمثل هذا الغنى، ولكني أعلم أن للألفاظ - مثل ما للغة - من التاريخ والتطور ما يفيد اللغوي معرفته، وقد يستفيد من الإلمام به بعض الكتاب، وأعلم أيضا أن مزية الألفاظ إنما هي فيها، قائمة بنفسها، وقلما تزيدها لدى الشاعر، صقلا أو خشنا، المعرفة بأصلها وشأن تطورها.
ها هي أمامك في القاموس، اضرب صفحا عما فيه من الوحشيات والخنفشاريات، من المستهجن والعقيم والبذيء (حبذا قاموس مجرد منها) وقس الألفاظ بما عندك من حسن سمع وحسن ذوق، وحسن نظر
5
فإن للألفاظ ما سوى الرنة والوزن بل الموسيقى والشكل؛ ألوانا أيضا وروائح في ما دق وشف وتماوج وفاح من معانيها.
أجل إن من الألفاظ ما تعد من الأحياء، لها من مرونة البان، وصلابة السنديان، وسلاسة الماء الجاري، وشذا الرياحين وزمزمة الرعود، وصفير البلابل، وهمس النسيم، وإيماء الألوان ما يجعلها لدى الكاتب كنزا في الإنشاء والإبداع. اللهم إذا كان يعرف حب الآس من حب البلان، أو القمح في الأقل من الزوان، فلا يتزود من القاموس دون غربلة، ولا يغرف جشعا وجزافا من كتب اللغة.
ليس الكاتب النابغة من كان يبدعيا فقط (اللفظة للأستاذ ضومط) بل من كان أيضا حسن الذوق في الفنون الجميلة كلها، في الغناء والموسيقى والشعر والنحت والتصوير، فيستعمل الألفاظ كما يستعمل العواد الأوتار، وينظم المعاني كما ينظم الرسام الألوان، ويبني جمله مقالا كما يبني النحات نصبا أو تمثالا، ويمزج أدبه وعلمه وخياله كما يمزج صانع العطور عطوره، فتجيء فيها روح الفنون كلها، أي التناسب والتوازن والتباين في التشابه ، خلا الإبداع نظرا وفكرا وأسلوبا، وهذا لعمري الجمال بعينه، بل هذا شيء من الكمال في الآداب.
واللغة العربية تمكن الكاتب الذي يتعشقها، فيجهد النفس في افتهام بعض أسرارها، من الكثير من ذا الجمال كما برهن عن ذلك الأستاذ ضومط. بل في اللغة ذاتها براهين لا تعد، وحجج لا ترد، وقد تجسمت في من تجلت لهم روحها السامية من الشعراء والعلماء. كان أبو الطيب، فجاء الشعر منه في أوج الصناعة، فإن في أنيق مبانيه، وجديد معانيه، وجزل ألفاظه حقيقة ما قلت. وهو في مقدمة من أحاطوا علما بكل ما في الألفاظ من أسرار المعاني وأظلالها وتموجاتها فكان - في اختيارها - موسيقيا، ورساما، وعطارا، ونحاتا معا.
अज्ञात पृष्ठ