وفوق ذلك نعيش في الخداع والجربزة والتلبيس، نخادع لخوف فينا يسودنا، نلبس على الله والناس لغايات في النفس خبيثة ذميمة، نتآخى طمعا بربح من هذا الإخاء، نتصادق حبا بما في الصداقة من عائدة مادية بائدة، وقال المتنبي:
ولما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام
كانت لامرئ كرمة يأوي الثعالب إليها ويفسدون فيها، فنصب هناك مفزعة أو خيال صحراء ليردعهم عنها، فجازت الحيلة على الثعالب وعجبوا لصاحب كرمة يحرسها ليل نهار ليقطع نصيبهم منها! إلا أن أحدهم وكان أشجعهم وأدهاهم بادره الريب من ذلك فجاء الكرمة ذات يوم ووقف قليلا وضربها بيد، فوقعت إلى الأرض، فضحك ثم ضحك ورفع فوقها جنبه وراح يدعو إخوانه إلى اجتماع وطني سياسي، وخطب فيهم قائلا: إن الإنسان لخداع مكار؛ فقد حرمنا نصيبنا من الكرمة بخيال نصبه فيها، ومن رأيي أن نحذو حذوه لنفوز عليه. فأقترح عليكم نصب خيال أسد هناك لننال قسمتنا من الكرمة، فصفق الثعالب الجياع له ونصبوا في كرمة الإنسان مفزعة بهيئة الأسد، ولما جاء الإنسان في اليوم التالي رأى الأسد واقفا هناك ينظر إليه وقف شعر رأسه وهرول راجعا إلى بيته، وكذلك نال الثعالب الجياع قسمتهم من الكرمة، خدعهم الإنسان بخيال فخدعوه بمثله.
وكم من خيالات وبعبعات تحفظ اليوم كياننا وتدفع عن شرفنا الوهمي عارا وهميا، كم في حقول وصحاري السياسة وكروم التجارة من مفزعات لو ضربت مرة لأصبحت مفضحات. أجل، إن الحياة اليوم سواء كانت في أرقى مظاهرها الأوروبية أو في أفخم مظاهرها الشرقية إنما هي حياة خاسئة فاسدة ناقصة، هي عند الغربيين محض مادية تجارية، وأمست عندنا لا مادية تعرف ولا روحية. حياتنا أيها السادة - وإن كنا لم نزل نؤم الكنائس والجوامع كأجدادنا - إن هي إلا ألعوبة في روحياتها وأضحوكة في مادياتها.
هي مزيج فاسد من الاثنين، هذا سبب الشقاء والبلاء والفساد في طبقات المجتمع كلها، بل هذا من وجهة خصوصية السبب الأصلي في انحطاط الشرق والشرقيين، ولكني أقول - وحق ما أقول - إن سيادة الأوروبيين في الشرق لا تدوم طويلا إذا كان أساسها القوة المادية فقط، وإن نهضة الشرق لا تنجح إن كانت أساسها الروحيات فقط. الكتب المقدسة تصلح الحياة ولكنها لا تعمر البلاد، والعلوم المادية تعمر البلاد ولكنها لا تصلح الحياة.
إذن كتبكم المقدسة احفظوها وكتب العلم عززوها، وكل كتاب - أيها السادة - يساعد على حفظ الحياة وتحسينها وارتقائها هو عندي كتاب كريم مقدس، والحياة الصحيحة القوية الجميلة السابغة هي التي تتغذى من كل كتاب مقدس روحيا كان موضوعه أو ماديا؛ ذلك لأنها مركبة من الأضداد، ذلك لأنها مادية روحية عقلية.
ومن النواميس الطبيعية المعروفة أن قوى الإنسان تنمو وتشتد في التمرين والممارسة، فإذا كنا لا نمارس إلا قوانا الحيوانية وفينا قوى أخرى عقلية روحية نظل - لا شك - في درجة واطئة من سلم الحياة، بل نظل والجهل والبلاء أكبر ما في حياتنا؛ ذلك لأن القسمين الكبيرين فيها اعتراهما الفساد من الإهمال، ولو مرن المرء قواه العقلية والجسدية فقط لظلت الروح فيه مهملة مغبونة، وكثيرا ما تكون تشوقات النفس المظلومة سببا لعوارض وأمراض شتى، كثيرا ما يكون شقاؤنا ناتجا عن فساد إحدى قوانا العقلية أو الروحية.
अज्ञात पृष्ठ