بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذا كتاب «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» للإمام ابن قيم الجوزية، نقدِّمه إلى القراء في طبعة جديدة بالاعتماد على أقدم نسخة خطية وصلت إلينا منه، وتصحيح كثير من الأخطاء الواردة في طبعاته المختلفة. وقد بذلنا جهدًا كبيرًا في مراجعة النصوص والأخبار والأشعار الواردة فيه، وتخريجها من المصادر التي نقل عنها المؤلف، وضبط الشعر وإصلاح الخلل الواقع فيه، وتقويم النصّ في ضوء ما توفَّر لدينا من المراجع.
وهذا الكتاب - كما سيأتي - أفضل الكتب التي ألِّفت في موضوع الحبِّ، أورد فيه المؤلف من الفوائد العلمية والتنبيهات والنكت والمناقشات ما لا نجده في كتاب آخر في هذا الباب، وانتقى فيه الأخبار والأشعار، ونزّهه عن الفحش والمجون وما يُخِلّ بالآداب الإسلامية، وإذا ورد شيء من ذلك فهو نادر.
وهذه فصول أقدِّمها بين يدي الكتاب ليكون القراء على دراية بالكتاب ومنهج مؤلفه، أتحدث فيها عما يخصّ الكتاب من نواحٍ مختلفة.
المقدمة / 5
عنوان الكتاب وتحقيق نسبته إلى المؤلف:
سمَّى المؤلف هذا الكتاب في مقدمته باسم «روضة المحبين ونزهة المشتاقين»، وفي نسخة منه: «روضة المحبين ونزهة العاشقين» كما ذكر ذلك الأستاذ أحمد عبيد في تعليقه على طبعته من الكتاب (ص ١٢)، وقال الشيخ بكر أبو زيد: لعله تصحيف (^١). وورد ذكره في مصادر ترجمة ابن القيم بعنوان «نزهة المشتاقين وروضة المحبين» (^٢) بتقديم وتأخير بين فصلي العنوان. ولكن النسخ الخطية التي وصلتنا تحمل العنوان المعروف الذي سمّاه به المؤلف في مقدمة الكتاب، وهو الذي ذكره حاجي خليفة (^٣)، ووصفه بقوله: «أولها: الحمد لله الذي جعل المحبة وسيلة إلى الظفر بالمحبوب ... الخ، وجعلها تسعة وعشرين بابًا كلها في مباحث المحبة». وهذا يدل على أنه اطلع على نسخة منه. والوصف المذكور ينطبق على الكتاب الذي بين أيدينا، فيتأكد بذلك نسبته إلى ابن القيم، ونطمئن إلى أنه الكتاب الذي ذكره المترجمون له بتقديم وتأخير بين فصلي العنوان.
ووهم إسماعيل باشا البغدادي، فذكره مرة بعنوان «روضة المحبين
_________
(^١) انظر: «ابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده» (ص ٢٥٢).
(^٢) «كما في ذيل طبقات الحنابلة» (٢/ ٢٥٠) و«طبقات المفسرين» للداودي (٢/ ٩٣) و«شذرات الذهب» (٦/ ١٧٠) و«التاج المكلل» (ص ٤١٧).
(^٣) في «كشف الظنون» (١/ ٩٣٢).
المقدمة / 6
ونزهة البساتين» (^١) ثم بعنوان «نزهة المشتاقين» (^٢)، فظنهما كتابين، فأبعد النجعة. ولكثرة أوهامه وتصحيفاته لا يُوثق بشيء مما ينفرد به عند العلماء والباحثين، فلا يُلتفت إليه.
ومما يؤكّد صحة نسبة الكتاب إلى ابن القيم أنه أورد فيه من نونيته المشهورة أبياتًا كثيرة، كما ذكر نماذج أخرى من شعره، ونقل عن شيخه شيخ الإسلام فوائد وتحقيقات في مواضع من الكتاب. وهناك عبارات ونصوص في بعض الموضوعات مشتركة بين هذا الكتاب وكتب ابن القيم الأخرى، وخاصةً كتاب «الداء والدواء» الذي يحتوي على كثير مما ذكره المؤلف في «روضة المحبين» في آفات النظر، وعقوبة اللواط، وفوائد غض البصر، ومراتب الحب، وأن كل حركة في العالم فأصلها المحبة، والكلام على العشق وما فيه من المفاسد، وأقسام العشاق، والكلام على حديث «من عشق فعفَّ». (انظر: الداء والدواء ص ٣٤٨ - ٣٥٣، ٣٩٢ - ٤٠٥، ٤١٥ - ٤٢٢، ٤٢٦ - ٤٤٧، ٤٦٦ - ٤٧٦، ٤٨٢ وما بعدها، ٥٦٧ - ٥٦٨، ٥٦٨ - ٥٧٣) [تحقيق الدكتور محمد أجمل الإصلاحي].
وسيأتي ذكر من نقل عن الكتاب واقتبس منه في مبحث مستقل.
_________
(^١) هدية العارفين (٢/ ١٥٨).
(^٢) المصدر نفسه (٢/ ١٥٩).
المقدمة / 7
بقي أن أشير إلى أن للمؤلف كتابًا آخر كبيرًا في المحبة، ذكره في مواضع من كتبه، فيقول: «وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاةً وتوابعها في كتابنا الكبير في المحبة» (مدارج السالكين ٢/ ٥٤ طبعة الفقي)، ويقول في موضع آخر: «وجميع طرق الأدلة تدل على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده، وقد ذكرنا لذلك قريبًا من مئة طريق في كتابنا الكبير في المحبة، وذكرنا فيه فوائد المحبة، وما تثمر لصاحبها من الكمالات، وأسبابها وموجباتها، والرد على من أنكرها، وبيان فساد قوله، وأن المنكرين لذلك قد أنكروا خاصة الخلق والأمر، والغاية التي وجدوا لأجلها» (مدارج السالكين ٣/ ١٩).
ويذكر في «مفتاح السعادة» (١/ ٢١٦) أنه سيُتبعه بعد الفراغ منه «كتابًا في الكلام على المحبة وأقسامها وأحكامها ...». ويسميه «المورد الصافي والظل الضافي» (طريق الهجرتين ص ١٢٤) [تحقيق الإصلاحي]، و«قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين» (مدارج السالكين ١/ ٩٢)، فهل هما كتابان أو كتاب واحد؟ الظاهر أنهما عنوانان لكتاب واحد، وعلى كلّ حال فالكتاب الكبير في المحبة غير «روضة المحبين»، فإنه لم يفصّل فيه مثل هذا التفصيل في موضوع محبة العبد للرب والرب للعبد. وظنَّ بعضهم أن «روضة المحبين» هو الكتاب الكبير (^١) وهو بعيد.
_________
(^١) انظر تعليق الشيخ محمد حامد الفقي على «مدارج السالكين» (٣/ ١٩)، وردَّ عليه الشيخ بكر أبو زيد في كتابه (ص ٣٠٦)، ولكنه في موضع آخر منه (ص ٢٥٣) يقول: «لعله هو الكتاب الكبير في المحبة ...».
المقدمة / 8
تاريخ تأليفه:
لم يذكر ابن القيم هذا الكتاب في مؤلفاته الأخرى، ولعله ألَّفه في أواخر حياته، وسيأتي بيان أن من بين المصادر التي اعتمد عليها المؤلف: «الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين» الذي ألفه الحافظ مغلطاي قبل سنة ٧٤٥ بقليل، واطلع عليه الحافظ صلاح الدين العلائي في هذه السنة وأنكر عليه بعض ما جاء فيه، ورفع أمره إلى الموفق الحنبلي، فاعتقله بعد أن عزّره، ومنع الكتبيين من بيع الكتاب، وبقي معتقلًا حتى انتصر له جنكلي بن البابا وخلَّصه (^١). ومغلطاي من المعاصرين لابن القيم ومن المحبين لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومحنته بسبب الكتاب كانت مشهورة، فلا عجب أن يطلع عليه ابن القيم، وينقل منه نصوصًا كثيرةً، إلا أنه لم يُشِر إلى الكتاب أو المؤلف. ومهما يكن من أمر فاعتماد ابن القيم على كتاب مغلطاي يدلُّ على أن تأليف «روضة المحبين» كان بعد سنة ٧٤٥، وهذا ما نريد أن نتوصل إليه هنا.
موضوع الكتاب:
«روضة المحبين» من أحسن الكتب التي أُلِّفت في موضوع الحب،
_________
(^١) انظر «الدرر الكامنة» (٤/ ٣٥٢).
المقدمة / 9
وأكثرها فائدة، وأجمعها للأحاديث والآثار في هذا الباب، وأحسنها انتقاءً لأخبار المحبين والعشاق، وقد جعله المؤلف في تسعة وعشرين بابًا، وقدَّم لها بمقدمة جيدة ذكر فيها الغرض من تأليف الكتاب ومنهجه فيه، وسرد أبوابه، ووصفه بقوله: «هذا الكتاب يصلح لسائر طبقات الناس، فإنه يصلح عونًا على الدين وعلى الدنيا، ومرقاةً للذة العاجلة ولذة العقبى، وفيه من ذكر أقسام المحبة وأحكامها ومتعلقاتها، وصحيحها وفاسدها، وآفاتها وغوائلها، وأسبابها وموانعها، وما يناسب ذلك من نكتٍ تفسيرية، وأحاديث نبوية، ومسائل فقهية، وآثار سلفية، وشواهد شعرية، ووقائع كونية، ما يكون مُمْتِعًا لقارئه، مُروِّحًا للناظر فيه. فإن شاء أوسعه جدًّا وأعطاه ترغيبًا وترهيبًا، وإن شاء أخذ من هَزْله ومُلَحه نصيبًا، فتارةً يضحكه وتارة يُبكيه، وطورًا يُبعده من أسباب اللذة الفانية، وطورًا يُرغِّبه فيها ويُدنيه. فإن شئتَ وجدتَه واعظًا ناصحًا، وإن شئت وجدته بنصيبك من اللذة والشهوةِ ووَصْلِ الحبيب مسامحًا».
هذا وصف إجمالي لمحتويات الكتاب، وفيما يلي استعراض لأبوابه وموضوعاته.
خصَّص المؤلف أبوابه الأولى (١ - ٥) لبيان أسماء المحبة واشتقاقها ومعانيها، ونسبة بعضها إلى بعض، وأن العالم العلوي والسُّفليّ إنما وُجد بالمحبة ولأجلها، كما تحدث عن دواعي المحبة ومتعلَّقها.
المقدمة / 10
وفي الأبواب (٦ - ٩) تحدث عن أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه، وذكر مناظرةً بين القلب والعين وحَكَّم فيها الكبد، وذكر الشُّبه التي احتج بها من أباح النظر إلى الحرام وأباح عشقه، ثم الجواب عنها وبيان ما لهم وما عليهم في هذا الاحتجاج.
أما الأبواب (١٠ - ١٦) فهي لبيان حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناس فيه، وهل هو اضطراري أو اختياري، واختلاف الناس في ذلك، وبيان سكرة العشاق وأن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان، وذكر من مدح العشق وذمَّه، والقول الفصل في هذا الباب.
وتحدث في الأبواب (١٧ - ١٩) عن استحباب تخيُّر الصور الجميلة للوصال الذي يحبُّه الله ورسوله، وأن دواء المحبين في كمال الوصال المباح، وميل النفوس إلى فضيلة الجمال.
وعقد الأبواب (٢٠ - ٢٨) لبيان علامات المحبة وشواهدها، واقتضاء المحبة إفرادَ الحبيب وعدم التشريك فيه، وذكر غيرة المحبين وعفافهم، وارتكاب سبل الحرام ومفاسده، ورحمة المحبين والشفاعة لهم، وترك أدنى المحبوبَيْن رغبةً في أعلاهما.
وختم الكتاب بالباب (٢٩) في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المُنى في الدنيا والآخرة.
ويظهر من قراءة الكتاب أن المؤلف اجتهد كثيرًا في تهذيبه وترتيبه، واختيار النصوص والأخبار المناسبة لجميع الأبواب، ويهدف من
المقدمة / 11
ورائها إلى إمتاع القارئ بما يقدِّمه من أخبار وأشعار وقصص وحكايات، مع تحذيره من مغبَّة الوقوع في الحرام، ودعوته إلى تغليب العقل على الهوى، وعدم الجري وراء الشهوات، وإيثار الآخرة على الدنيا. وهذا الغرض الرئيسي واضح من جميع أبواب الكتاب، وخاصة الأبواب الأخيرة منه، والتي خصَّصها للدعوة إلى ترك الشهوات وبيان كيفية التخلص من الهوى المُردِيْ.
أهمية الكتاب:
سبق ابنَ القيم إلى التأليف في موضوع الحبّ عددٌ من العلماء، منهم من أفرده بالتأليف، ومنهم من جعله فصلًا من كتابه، ومنهم من فرَّق أخبار العشق والعشاق في أثناء مؤلفاته في موضوعات مختلفة. ولسنا هنا بصدد إحصاء هذه المؤلفات ودراستها، وبيان ما وصل إلينا منها مخطوطًا ومطبوعًا (^١). وإنما نكتفي بإلقاء نظرة سريعة على الكتب المشهورة في هذا الباب، لنعرف موقع «روضة المحبين» منها.
_________
(^١) قام بدراسة بعض هذه الكتب محمد حسن عبد الله في كتابه «الحب في التراث العربي» (ط. الكويت ١٩٨٠ م). وهناك دراستان لاثنين من المستشرقين يمكن الرجوع إليهما:
Lois Anita Giffen، Theory of profane love among the Arabs، (London ١٩٧٢).
Joseph Bell، The Hanbalite thinking on love theory in later Hanbalite Islam، (New York ١٩٧٩).
المقدمة / 12
١ - من أقدم ما وصل إلينا من هذه الكتب: كتاب «الزهرة» لمحمد بن داود الظاهري (ت ٢٩٦)، والقسم الأول منه خاص بالحب ومظاهره وآثاره وأحكامه وأحواله وتصاريفه، وقد قسمه المؤلف إلى خمسين بابًا، وعنون كل باب بعنوان مسجوع، وأورد تحته مختارات من الأشعار والأخبار. وشهرة هذا الكتاب ترجع إلى أنه لفقيه ظاهري وإمام ابن إمام، يرسم للحبّ صورة وجدانية راقية، ويعتبر رائدًا في هذا الميدان، وقصته في هذا الباب مشهورة.
٢ - كتاب «الموشى» لأبي الطيب الوشاء (ت ٣٢٥) الذي يشكّل الحب عنده أحد أركان الظرف، وللتعبير عن ذلك سلك المؤلف سبيل رواية القصص والمأثورات والآراء الشخصية المبنية على تجارب خاصة، حتى أصبحت المادة التي جمعها في هذا المجال تشكل القسم الهام من عمله، وكلها يدور حول الحب العفيف ونقض كل ما هو مخالف له.
٣ - أما كتاب «اعتلال القلوب» للخرائطي (ت ٣٢٧) فيعتبر من أمهات الكتب في هذا الموضوع، وتأليفه على طريقة المحدِّثين بذكر الأسانيد لجميع الأخبار. وقد أكَّد المؤلف على ضرورة التمسك بالعفاف، كما يدل على ذلك عناوين كثير من أبوابه، واختار من الآيات والأحاديث وسير الصحابة والتابعين وقصص المحبين وأشعارهم ما يُرشِد القراء إلى هذا الهدف، وفيه أخبار طريفة عن المحبين انتقاها مؤلفه بدقة.
المقدمة / 13
٤ - «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي (ت ٤٥٦)، درس المؤلف فيه الحبّ وتتبع أطواره، وبحث أدق قضاياه بوضوح وصراحة، وكان منهجه فيه الاستقراء والتتبع، والاعتماد على ما رأى وعاين، أو ما أُخبر عنه وصدَّقه، كما ذكر ذلك في مقدمته، حيث قال: «التزمت في كتابي هذا الوقوف عند حدّ الاقتصار على ما رأيت، أو صحَّ عندي بنقل الثقات. ودعني من أخبار الأعراب والمتقدمين، فسبيلهم غير سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أُنْضِي مطيةَ سواي، ولا أتحلَّى بحلي مستعار» (ص ١٧ ط. دار المعارف).
٥ - «مصارع العشاق» لجعفر السرَّاج (ت ٥٠٠)، جمع فيه أخبار العشاق الذين صرعهم الحبُّ منذ العصر الجاهلي حتى العصر العباسي، ومن سمات الكتاب أنه يطبع شخصياته دائمًا بطابع العفاف وخوف الله، ومن سماته أيضًا أن المؤلف قدَّم لكل جزء من أجزائه الاثنين والعشرين بمقطوعة شعرية من نظمه. ومن عيوبه أنه يورد الأخبار والروايات دون ترتيب وتبويب (^١)،
_________
(^١) هذَّبه البقاعي (ت ٨٨٥) في «أسواق الأشواق من مصارع العشاق»، ورتَّبه وزاد فيه جميع كتاب الحافظ مغلطاي «الواضح المبين» وجميع حكايات «منازل الأحباب» للشهاب محمود، فجاء في مقدمة وعشرة أبواب. انظر بيان مخطوطاته في كتاب أخي الدكتور محمد أجمل الإصلاحي: «فهرست مصنفات البقاعي» (ص ١٥٤ - ١٥٥)، وقد بنى داود الأنطاكي (ت ١٠٠٨) كتابه «تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق» على كتاب البقاعي، واختصره ورتَّبه على مقدمة وخمسة أبواب وخاتمة، وهو مطبوع معروف.
المقدمة / 14
وقد يكرِّرها في عدة مواضع، وقد يذكر بعض القصص والأخبار التي لا يصدّقها العقل.
٦ - «ذم الهوى» لابن الجوزي (ت ٥٩٧)، رتَّبه المؤلف على خمسين بابًا، وروى فيه الأخبار بالأسانيد، وهو كتاب يشتمل على ذمّ الهوى والتحذير من الوقوع في الخطأ والضلال، والحث على محاسبة النفس الأمارة بالسوء، والتحكم بالخواطر، والالتزام بالعفاف وخوف الله، وقد ألفه ابن الجوزي بعد ما طلب منه أحد من ابتلي بالهوى أن يصف له علاج هذا الداء العضال.
٧ - «منازل الأحباب» للشهاب محمود (ت ٧٢٥)، جمع فيه أخبار العشاق وأشعارهم منذ العصر الجاهلي إلى عصره، ولم يُشر إلى المصادر التي استقى منها مادة كتابه، وأضاف المؤلف إلى ما رواه عن غيره جملة من نظمه ونثره؛ إذ رآها تدخل في بابه ومعناه. وقد قسَّم كتابه إلى ثلاثة عشر بابًا، استغرق الباب الأخير منها الحيز الأكبر من الكتاب.
المقدمة / 15
٨ - «الواضح المبين» لمغلطاي (ت ٧٦٢)، اعتمد فيه المؤلف على كتب العشق التي سبقته، وبدأ كتابه بروايات متعددة لحديث: «من عشق فعف ...»، ثم تحدث عن الحب وذكر تعريفاتٍ وأقوالًا كثيرة، ثم رتب أسماء العشاق وأخبارهم على حروف المعجم، وحذف الأسانيد من الأخبار إلا فيما يتعلق بالحديث النبوي. وقد أورد فيه بعض الأخبار المنكرة التي امتُحن من أجلها واعتُقل.
هذه أشهر الكتب التي وصلت إلينا مما أُلِّف في هذا الباب إلى عهد ابن القيم، وقد اعتمد على بعض منها، وانتقى الأخبار والأشعار الواردة فيها، ورتبها ترتيبًا جديدًا. ولم يقتصر على النقل والاقتباس من الكتب وإيراد الأخبار والأشعار فقط، بل علَّق عليها بكلامه وشرحها، واستخرج الدروس والعبر منها، وأضاف إليها كثيرًا من الفوائد والنكت والمسائل في الحديث والتفسير والفقه والسلوك وغيرها، وهذه ميزة انفرد بها كتاب «روضة المحبين» من بين الكتب المؤلفة في هذا الباب، وقد قمنا بفهرسة هذه الفوائد المنثورة في آخر الكتاب، فأغنانا عن ذكرها هنا.
وهناك ميزة أخرى للكتاب، وهي أن ابن القيم يقدِّم لأغلب الأبواب والفصول بكلام مفيد يُمهِّد به لذكر الأخبار والآثار الواردة فيها، فهو لم يقتصر على جمع الأخبار والأشعار وانتقائها، بل كان له رأي واضح في
المقدمة / 16
جميع القضايا التي تناولها بالبحث. وقد وضع بعض الأبواب للفصل بين رأيين متعارضين في قضية معينة، فمثلًا بعد ما تحدث عمن مدح العشق ورغَّب فيه وعمن ذمَّه وتبرم به، وذكر احتجاج الفريقين في البابين (١٤، ١٥)، عقد الباب (١٦) في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين، وقال: «العشق لا يُحمَد مطلقًا ولا يُذم مطلقًا، وإنما يُحمَد ويُذَمُّ باعتبار متعلَّقه، فإن الإرادة تابعة لمرادها ...» ثم فصَّل في بيان ذلك.
وعندما ذكر في الباب (٨) الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل الاستمتاع به وأباح عشقه، عقد الباب (٩) للجواب عما احتجت به هذه الطائفة، وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج، وقال: إن شُبههم التي ذكروها دائرةٌ بين ثلاثة أقسام: أحدها: نقولٌ صحيحة لا حجة لهم فيها، والثاني: نقولٌ كاذبة عمن نُسِبت إليه من وضع الفسَّاق والفجَّار، والثالث: نقولٌ مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه. ثم توسَّع في بيان ذلك، وفي هذا الباب نفى عن شيخه شيخ الإسلام فتوى في العشق، وقال: إنها كذبٌ عليه لا تُناسِب كلامَه بوجه. وأجاب عن كل الحجج التي احتجوا بها في إباحتهم لذلك الوصال، فكان الواضح من رأيه أنه يمنع من ذلك ولا يجيزه. ولكنه في الباب (٢٥) في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يُبيحه الدين، ذكر ما يفهم منه جواز التداوي بمثل ذلك الوصال إن تحقق الشفاء به، وأورد أخبارًا في الشفاعة للعشاق فيما يجوز من الوصال والتَّلاقي.
المقدمة / 17
وتتجلى أهمية الكتاب في أن مؤلفه يركّز دائمًا على التحذير من ارتكاب الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام، والدعوة إلى ترك أدنى المحبوبين رغبةً في أعلاهما، والترغيب فيما أعدّ الله للمؤمنين في الجنة، ويذكر لمن ابتُلي بالهوى طرقَ التخلُّص منه بأمور كثيرة، وبها ختم الكتاب.
ولهذه الأمور وغيرها اعتُبر هذا الكتاب أفضل الكتب المؤلفة في هذا الباب، وقد قال الأستاذ أحمد عبيد في مقدمة نشرته (ص: ز - ح): «بقي كلمة أحبُّ أن أقولها، وهي أن الكتب المصنفة في الحب هذا أنفعها؛ لأنه جمع إلى لغة الحب وفلسفته ومذاهب الناس فيه لغةَ الشريعة وحكمتها وأدبها، فالقارئ يتنقل في هذه الروضة المؤنقة من فائدة لغوية إلى قاعدة أصولية، ومن نكتة أدبية إلى مسألة فقهية، ومن غيرها إلى غيرها مما لا سبيل إلى استقصائه. أما غيره من الكتب المؤلفة في هذا الشأن فبعضها يَسرُد من أخبار العشاق ما يُزيِّن العشق ويُغري به، ويذكر بعضُها من مدح الهوى وأهله ما يَهوِي بقارئه في دركات الشر والهلاك، وليس في سائرها ما يتنزه عن سوء القول وخَطَل المجون. إن هذا الكتاب قد شُحِن بحمد الله بكل معنى جميل وقول عفيف، فليس فيه ما ينبو السمع عنه من قذع الكلام وفاحش المجون، حتى إنه بَرئ من ذكر السوءات إلا ما ورد منها في الكتاب والسنة».
المقدمة / 18
موارده:
ذكر المؤلف في مقدمة الكتاب (ص ٢٣) أنه «علَّقه في حال بُعدِه عن وطنه، وغَيبتِه عن كتبه»، وقد فهم منه بعضهم (^١) أنه يورد أغلب الأحاديث والأخبار والأشعار من حفظه، ولا يذكر الحديث بلفظه ولا القول بنصِّه، وربَّما جمع الآية من الآيتين، والحديث من الحديثين، وربَّما قدَّم المؤخَّر وأخَّر المقدَّم، وأبدلَ كلمةً بكلمةٍ، وغيَّر حرفًا بحرفٍ.
ولكن بعد قراءة الكتاب قراءةً متأنية، ومراجعة نصوصه ومقابلتها بالكتب المعروفة، يظهر لنا أن المؤلف اعتمد على مجموعة من المصادر، استقى منها النصوص والأخبار والقصص والأشعار، وهو وإن تصرَّف فيها قليلًا أو كثيرًا، ولم يذكر في أغلب الأحيان المصادر التي نقل منها، إلا أنه يُصرِّح أحيانًا بأسماء بعض الكتب والمؤلفين، وينقل عنها صفحاتٍ متتالية، كما يظهر ذلك بالمقابلة معها. ومثل هذا التوافق لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان المؤلف استخدم تلك المصادر حقيقةً. فكيف نفسِّر كلام المؤلف في مقدمة الكتاب؟
الذي أرى أن يُفهم من مثل هذه العبارة في مقدمات بعض الكتب: أن المؤلف كان وقت التأليف بعيدًا عن مكتبته الخاصة الغنية بالمصادر
_________
(^١) مثل الأستاذ أحمد عبيد في مقدمة تحقيقه للكتاب: ص هـ.
المقدمة / 19
والكتب (^١)، وأنه اشتغل بتأليفها في حال سفره وبُعده عن وطنه، وهذا لا يدلُّ على أنه لم يستخدم الكتب أو مذكراته الخاصة بالنقول عن المصادر. فكل مؤلف أو باحث لا يتيسر له في كل وقتٍ الحصول على المراجع الضرورية للموضوع الذي يريد أن يكتب فيه، حتى ولو كان مستقرًّا في مكتبته ومقيمًا في بلده، فهو في بعض الأمور يعتمد على محفوظاته، مثل القرآن الكريم، والأحاديث المشهورة، والأبيات السائرة، والأمثال والحكم المأثورة، وبعض الأخبار والأحداث والقصص المعروفة، وأقوال السلف والأئمة في المسائل المختلفة، وبعض المتون المشهورة وغيرها من المعارف التي يُكثِر منها العلماء أو يُقِلِّون حسب رغبتهم وتخصصهم. وفي كثير من الأحيان يعتمد على الكتب إذا تيسَّرت، أو النصوص المقتبسة منها في مذكراته الخاصة.
وقول المؤلف في المقدمة لا ينفي أن تكون قد حصلت له بعض الكتب في حال بُعده عن وطنه، أو أنه استخدم بعض مذكراته التي اقتبس فيها النصوص والفوائد من المصادر المختلفة التي قرأها.
وعلى هذا فيمكن لنا أن نبحث عن موارده في الكتاب، ولسنا هنا بصدد الاستقصاء والتتبع لجميع المصادر التي استخدمها، فإن الفهارس العلمية في آخر الكتاب ستبيِّن أسماء جميع المؤلفين والكتب التي ورد
_________
(^١) انظر عنها ما قاله الشيخ بكر أبو زيد في كتابه (ص ٦٢ - ٦٣).
المقدمة / 20
ذكرها فيه. وإنما نذكر هنا المصادر الرئيسة التي كان عليها جلُّ اعتماد المؤلف في إيراد الأخبار والأشعار في الكتاب، وهي خمسة كتب:
١ - اعتلال القلوب، للخرائطي (ت ٣٢٧).
٢ - طوق الحمامة، لابن حزم (ت ٤٥٦).
٣ - ذم الهوى، لابن الجوزي (ت ٥٩٧).
٤ - منازل الأحباب، للشهاب محمود (ت ٧٢٥).
٥ - الواضح المبين، لمغلطاي (ت ٧٦٢).
وكان اعتماده على «طوق الحمامة» و«منازل الأحباب» قليلًا، بالنسبة إلى الكتب الثلاثة الأخرى التي أكثر النقل منها دون الإشارة إليها في أغلب المواضع، بل لم يشر إلى كتاب مغلطاي أصلًا، ولكنه نقل بواسطته عن كتب أخرى صرَّح بأسماء بعضها. ولعل السبب في ذلك - والله أعلم - عدم تقدير العلماء لكتاب مغلطاي بسبب بعض الأخبار المنكرة التي أوردها فيه، حتى إنه امتُحن بسببها وأُدخِل السجن، كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى، فأحبَّ ابن القيم أن لا يُصرِّح بالنقل من هذا الكتاب.
هذه هي المصادر الأساسية للأخبار والأشعار المتعلقة بالعشق والعشاق، وقد أشرتُ في تخريجي لها إلى هذه الكتب، فلا داعي لذكر جدول لبيان النصوص المقتبسة منها.
المقدمة / 21
أما الأحاديث والآثار فكثير منها عزاها إلى الصحاح والسنن والمسانيد والأجزاء المفردة، وقد يعزو إليها من حفظه فيحصل بعض الوهم والخطأ، وقد أشرتُ إلى ذلك في الحواشي. وفي الباب الثاني الخاص ببيان اشتقاق أسماء المحبة ومعانيها اعتمد على «الصحاح» للجوهري كثيرًا، وصرَّح بذكره في بعض المواضع.
أما المصادر والمراجع الأخرى فقد ينقل عنها مباشرة، وقد ينقل عنها بواسطة كتب الخرائطي وابن الجوزي ومغلطاي، وبيانها في الهوامش في مواضعها.
أثره في الكتب اللاحقة:
نقل عن هذا الكتاب عدد من المؤلفين، واعتمدوا عليه في إيراد النصوص التي ذكرها ابن القيم، وآرائه وتعليقاته على القضايا التي تطرق إليها. وأقدم من وجدته يقتبس منه: ابن أبي حجلة (ت ٧٧٦) في كتابه «ديوان الصبابة»، وقد اعتمد عليه اعتمادًا كبيرًا في تأليفه، وأورد أكثر الأخبار والأشعار التي ذكرها ابن القيم في كتابه، دون أن يشير إليه في أغلب المواضع، وقد صرَّح بالنقل عنه في أربعة مواضع فقط، فأحيانًا يقول: «قال الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية ...» (ص ٣٤، ٩٣) [ط. بيروت ١٩٧٢ م]، وأحيانًا يقول: «قال صاحب روضة المحبين» (ص ٣٦، ٩٢).
المقدمة / 22
والواقع أنه نقل عنه كثيرًا، وخاصةً في فصول المقدمة والأبواب الأولى منه. وكل من يقارن بين النصوص المشتركة الواردة في كلٍّ من «ديوان الصبابة» و«روضة المحبين» يتبين له صحة هذا الأمر، ويتأكد له أن ابن أبي حجلة كان عالة على كتاب ابن القيم، وإن كان أضاف إليه فوائد وزوائد، وعقد بعض الأبواب التي لم يرد ذكرها إلا في «ديوان الصبابة»، كما أورد المؤلف من شعره وشعر المتأخرين في مواضع منه، ولم يتورع عن الفحش والمجون والوصف الصريح في هذا الباب، على عكس ابن القيم الذي نزَّه كتابه عن هذا إلا نادرًا.
ثم جاء سبط ابن العجمي (ت ٨٨٤) فنقل عنه في كتابه «كنوز الذهب في تاريخ حلب» (١/ ٥٦)، وكذا نقل عنه صاحب كتاب «صُبَابة المُعَاني وصَبَّابة المعاني» من علماء القرن الحادي عشر، طبع مركز الملك فيصل بالرياض، نقل عنه وسمى كتابه (ص ١٠١)، ونقل عنه دون تسمية عند ذكر الصبابة (ص ١٢٧) (^١).
ثم جاء المؤلف المشهور مرعي بن يوسف الحنبلي (ت ١٠٣٣)، فألَّف كتابًا في هذا الموضوع، وسمَّاه «مُنْية المحبين وبُغية العاشقين»، وتوجد منه عدة نسخ، منها نسخة في دار الكتب المصرية [أدب ٦٢٥٢]، وأخرى في دار الكتب أيضًا [طلعت أدب ٤٦٤٨]، وثالثة في الإسكندرية [أدب ١٧٠]. ولم أتمكن من الحصول على شيء منها لأحكم على قيمة
_________
(^١) أفادني الشيخ سليمان العمير بالمصدرين السابقين، جزاه الله خيرًا.
المقدمة / 23
الكتاب العلمية، وعلاقته بكتاب «روضة المحبين». إلا أن عنوان كتابه يُوحي بأنه مختصر من كتاب ابن القيم وتهذيب للأخبار الواردة فيه، فإن المؤلف المذكور معروف بالنقل كثيرًا عن كتب ابن القيم وشيخه شيخ الإسلام. وكلُّ من قرأ شيئًا من مؤلفاته في الموضوعات التي ألَّف فيها الشيخان يعرف أسلوبه في النقل عنها والاعتماد عليها اعتمادًا كبيرًا، مع زيادة بعض الفوائد من المصادر الأخرى. وأرجو ممن يطلع على كتاب مرعي أن يكشف عن حقيقة الأمر، ويبيِّن علاقته بكتاب «روضة المحبين»، وإلى أيّ مدى اعتمد عليه مرعي في كتابه.
وممن نقل عن هذا الكتاب: السفّاريني (ت ١١٨٨) في كتابه «غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب»، وقد اقتبس منه في مواضع، وسمَّاه «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» أو «روضة المحبين». انظر ١/ ٨٨، ٩٦ - ٩٧، ١٠٠ - ١٠١، ١٠٢، ٢/ ٤٠٢، ٤١١، ٤١٧ - ٤١٨، ٤٢٣ - ٤٢٤، ٤٣٥، ٤٤٠، ٤٤١ - ٤٤٢، ٤٥٦ - ٤٥٨، ٤٥٨ - ٤٥٩ (طبعة مطبعة الحكومة بمكة ١٣٩٣).
ونقل عنه السفّاريني أيضًا في كتابه «شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد» (١/ ٤٢٩، ٤٤٠، ٧٠٤)، وفي كتابه «كشف اللثام شرح عمدة الأحكام» (٥/ ٢٤٨)، وفي كتابه «القول العلي لشرح أثر الإمام علي» (ص ٣٠٩، ٣١١) (^١).
_________
(^١) هذه المصادر الثلاثة أفادني بها أيضًا الشيخ سليمان العمير حفظه الله.
المقدمة / 24